برسول الله صلى الله عليه وسلم تغير خط التاريخ واعتدل الميزان وذاق الناس طعم التقوى ورأوا النور واستقامت حياة الملايين عبر الأجيال، وسعدت نفوس في الدنيا والآخرة وعرفت ربها، وانتشر الخير وتعلمت البشرية من رسول الله الخير حتى ممن ينكر رسالته ويناصبه العداء..
فقيمة رسول الله في حياة البشرية لا تعدلها قيمة.. ولهذا نقدم هذه الدراسة..
شخصية رسول الله
ليس هناك شخصية لقيت من اهتمام العلماء والدارسين قديما وحديثا كما لقيته شخصية الرسول محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. وليس هناك أمة اعتنت بتاريخ نبيها، بكل تفاصيله ودقائقه، كما اعتنت الأمة الإسلامية.
الاعتناء الدقيق بتفاصيل سيرة رسول الله
ويرجع ذلك لسببين اثنين:
الأول: أن هذه الحياة واقعية وفي نفس الوقت هي مثالية في جميع جوانبها ومستوياتها، مما جعل الأمة الإسلامية تستلهم منها دائما المثل الأعلى والقدوة الحسنة: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ (الأحزاب: 23).
الثاني: أن حياة وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم كانت موضع اهتمام الأمة وعنايتها بأحاديثه وأفعاله ومغازيه وأيامه. وتكاد تكون كل كلمة تلفظ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل حركة قام بها، مرصودة من الصحابة رضي الله عنهم ومدونة في صدورهم، وراسخة في أذهانهم قبل أن تدون في الكتب عند بدء حركة التدوين من نهاية القرن الأول الهجري إلى نصف القرن الثاني الهجري.
طبقات مؤرخي سيرة رسول الله
وقد مرت حركة التدوين بمراحل زمنية متتابعة، مما جعل العلماء يقسمون كُتاب السيرة النبوية والمؤلفين فيها إلى طبقات. والطبقة في اصطلاح المحدثين: هم جماعة تقاربوا في السن واجتمعوا في لقاء الشيوخ.
1- الطبقة الأولى، وعلى رأسها: عروة بن الزبير وأبان بن عثمان بن عفان وشرحبيل بن سعد.
2- الطبقة الثانية وعلى رأسها: محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، وعاصم بن عمر بن قتادة، ومعمر بن راشد ومحمد بن إسحاق المطلبي.
3- الطبقة الثالثة: وعلى رأسها: موسى بن عقبة ومعمر بن راشد ومحمد بن إسحاق.
ومن حفظ الله تعالى لسيرة نبيه لتبقى منارا يقتدي بها المسلمون في كل عصر ومصر، أن هيأ لها هؤلاء العلماء من طبقات التابعين وتابع التابعين لكتابتها في وقت مبكر، مستقين أخبارها من الصحابة الذين كانوا شهود عيان ومشاركين في الأحداث، فلم يقع انقطاع بين الأحداث والتدوين.
كما أن الله تعالى حفظ سيرة نبيه من الضياع والتحريف والمبالغة والتهويل، لأن هؤلاء عنوا بها ودونوا أصولها قبل أن تتناولها أقلام المؤرخين والقصاصين. وهذه ميزة لكتب السيرة المختصة لم تتوفر لغيرها من كتب التاريخ والأخبار.
وهناك حقيقة هامة ينبغي إيضاحها وهي أن كتب الحديث تدعم ما أوردته كتب السيرة المختصة في معظم الجوانب المتعلقة بحياة النبي صلى الله عليه وسلم، وخاصة سيرة موسى بن عقبة (ت140هـ) وسيرة محمد بن إسحاق (ت 157هـ).
والفرق بين كتب الحديث وكتب السيرة يتمثل في كون كتب السيرة تسوق كثيرا من الروايات بأسانيد مرسلة ومنقطعة، وتوجد هذه الروايات في كتب الحديث متصلة مسندة، مما يوثق معلومات كتب السيرة، ولله تعالى المنة والحمد.
[للمزيد اقرأ: كيف أخرج رسول الله للناس خير أمة؟ (1-3) تحديد الهوية ومنع الالتباس]
الطبقة الأولى
1- أبان بن عثمان بن عفان (ت 105هـ)
كان من أشهر القائمين بتدوين السيرة وجمع أخبارها، ومن أعلام رواة الحديث. روى عن أبيه وغيره من كبار الصحابة، كما تتلمذ على يديه كثيرون من كبار المحدثين أمثال ابن شهاب الزهري وابن إسحاق المطلبي(1).
شارك في بعض الأحداث مثل واقعة الجمل، وتولى إمارة المدينة في أيام عبد الملك بن مروان(2). إلا أنه فضل الاشتغال بالعلم، إذ يعد من فقهاء المدينة السبعة(3)، ومن أقدم من ألفوا في المغازي(4).
وقد اشتهر بالمغازي حتى أصبح من أساتذة هذا الفن الحائزين على ثقة العلماء فيه، فقد قال ابن سعد في طبقاته وهو يترجم للمغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث، “كان ثقة قليل الحديث، إلا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها عن أبان بن عثمان(5).
2- عروة بن الزبير بن العوام (ت 93هـ)
كان على صلة قريبة ووثيقة ببيت النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأمه أسماء بنت الصديق (رضي الله عنها) وخالته أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها)، فتتلمذ عليها ونقل إلينا أخبارا كثيرة عن حياة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته.
وهو أحد الفقهاء السبعة في المدينة، وهناك خبر جدير بالذكر يرويه ابن سعد عن هشام بن عروة أن أباه أحرق يوم الحرة عدة كتب، وقد حزن كثيرا على فقدها فيما بعد(6). فهذا الخبر يدل على انتشار الكتابة والتأليف في هذا الوقت المبكر من اهتمام المسلمين بالتدوين العلمي.
وقد قام عروة بدور متميز في إرساء قواعد الكتابة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، فكان الخلفاء والأمراء والعلماء يكتبون إليه ويسألونه. وقد نقل لنا الإمام الطبري نصوصا طويلة من كتابات عروة بن الزبير إلى عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي(7).
وقال عنه محمد بن عمر الواقدي:
كان عروة فقيها عالما حافظا ثبتا حجة عالما بالسير، وهو أول من صنف في المغازي.(8)
ويذكر ابن النديم أن له كتابا في المغازي(9).
وقد قام الدكتور محمد مصطفى الأعظمي باستخراج ما روي عن عروة في المغازي من طريق أبي الأسود فقط، فتبين أنها تغطي فقرة طويلة من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، من نزول الوحي عليه حتى وفاته وانتقاله إلى الرفيق الأعلى (10).
ومنهج عروة في كتابة المغازي حسبما يتضح من هذه النسخة المستخرجة يقوم على الاستشهاد بالآيات القرآنية، ويستعمل الأشعار لكن بقلة، ويهتم كثيرا بالأنساب.
وله عناية بإيراد الوثائق والكتب التي كتبها النبي صلى الله عليه وسلم. كما أنه كان قليل الاستعمال للأسانيد، بينما نجد نفس الروايات في كتب الحديث مسندة، وخاصة ما كان عن طريق ابن شهاب الزهري، كما ذكرت آنفا في مقدمة هذا البحث.
3- شرحبيل بن سعيد (ت 123 هـ)
هو شرحبيل بن سعيد الخطمي المدني، تلقى عن جمع من الصحابة منهم: زيد بن ثابت وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري(11). وروى بالخصوص عن أبيه سعيد بن سعد بن عبادة الخزرجي، الذي كان له اهتمام بجمع المعلومات المتعلقة بمغازي النبي صلى الله عليه وسلم(12).
وقد بقيت بعض المعلومات التي جمعها في مسند الإمام أحمد وتاريخ الطبري(13)، واعتمد عليها ابنه شرحبيل في كتاباته. فسار على سنة أسرته في التأليف في المغازي، إذ كان جده سعد بن عبادة الصحابي المشهور ذا مؤلف في السنن لايزال معروفا في القرن الثالث الهجري(14). قال سفيان بن عيينة عنه:
لم يكن أحد أعلم بالمغازي والبدريين منه(15)
وهذا النص وإن كان لا يعطي دلالة صريحة على أن شرحبيل كتب كتابا في السيرة والمغازي، إلا أنه يدل على أنه قد احتفظ بقوائم فيها أسماء البدريين، كما يدل على هذا نص آخر لمحمد بن طلحة الطويل(16)
[للمزيد اقرأ: كيف أخرج رسول الله للناس خير أمة؟ (2-3) أُطرٌ متعددة وهوية واحدة]
الطبقة الثانية
1- محمد بن مسلم بن شهاب الزهري (ت 124هـ)
يتمتع بشهرة واسعة في السيرة. الإمام الحجة الثقة محمد بن مسلم بن شهاب الزهري. وثقه جهابذة علماء الجرح والتعديل(17)، وأثنى عليه العلماء بالفهم وسعة العلم(18). وكان صاحب دراسات في السيرة والحديث والفقه، يدون ما يسمعه ويجمعه من مشايخه.
قال عنه أبو الزناد: “كنا نطوف مع الزهري على العلماء ومعه الألواح والصحف يكتب ما يسمع”(19).
وكان بصيرا بالعلوم ذا عقلية موسوعية حتى صار مرجع علماء الحجاز والشام. قال فيه الليث بن سعد:
ما رأيت عالما قط أجمع من الزهري، يحدث في الترغيب فتقول: لا يحسن إلا هذا، وإن حدث عن العرب والأنساب قلت: لا يحسن إلا هذا، وإن حدث عن القرآن والسنة فكذلك.(20)
وبذلك تكونت من كتاباته وعلومه هذه مجموعات ضخمة دخلت قصور الخلفاء الأمويين. فقد أمر الخليفة هشام بن عبد المالك اثنين من كتابه بمرافقة ابن شهاب الزهري فرافقاه عاما في مجالسه التي يحاضر فيها، ثم أودع ذلك النقل خزانة هشام(21). وحكي أنه حين قتل الوليد بن يزيد سنة 126هـ حملت الدفاتر من خزانته على الدواب من علم الزهري(22).
وهو أول من استخدم طريقة جمع الأسانيد ليكتمل السياق وتتصل الأحاديث دون أن تقطعها الأسانيد(23). ونقل أبو القاسم السهيلي في الروض الأنف عن سيرة الزهري قصة بحيرى الراهب وزواج الرسول صلى الله عليه وسلم بخديجة رضي الله عنها(24)، ووصفها بقوله:
وهي أول سيرة ألفت في الإسلام(25)
وقد نقل عنه أبو جعفر الطبري في تاريخه في أكثر من مائة موضع جلها في السيرة النبوية(26). وإذا رجعنا لأبواب المغازي والسير في كتب الحديث النبوي نجد مئات الروايات عن الإمام الزهري. وهذا يدل على أنه قد جمع أحاديث السيرة النبوية ورتب مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما صرح بذلك السهيلي. لكن لم يصلنا من ذلك شيء بشكل مستقل، وإنما وصلتنا رواياته في كتب السنة والسيرة(27).
وقد جمعها المحقق سهيل زكار في كتاب عنوانه : “المغازي النبوية”، نشرته دار الفكر في بيروت في عام 1401هـ/1981م.
2- عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمـرو بن حـزم الأنصاري (ت 130هـ)
كان جده الأعلى عمرو بن حزم من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. نشأ في بيت علم وقضاء وإمارة، وورث عن أبيه مواهبه العلمية، فاختص برواية الحديث، خاصة الأحاديث المتصلة بالمغازي، وكان حجة في ذلك. وهو أحد مصادر كبار علماء السيرة؛ فقد روى عنه ابن إسحاق والواقدي وابن سعد ـ كاتب الواقدي ـ خاصة تلك الروايات التي تتصل بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، ووفود القبائل في عام الوفود(28).
وكانت زوجته فاطمة بنت عمارة راوية للحديث، وكانت تروي عن عمرة بنت عبد الرحمن التي تربت في حجر أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فحفظت عنها الكثير من الحديث(29). وكان هو يروي عن زوجته، بل كان يسمح لها أن تحدث غيره بما عندها من أخبار السيرة النبوية(30).
ومما يدل على أنه كتب في السيرة ورتب أحداثها حسب الترتيب الزمني، واستوعب المغازي والبعوث بشكل خاص، النص الطويل الذي أورده ابن جرير الطبري في تاريخه حول عدد بعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراياه، وقد ساقها مرتبة وعددها خمس وثلاثون سرية(31).
ويعد عبد الله بن أبي بكر مصدرا كبيرا من مصادر السيرة، وأحد أعلام الطبقة الثانية من علماء المغازي والسير، له روايات كثيرة في السيرة نجدها عند ابن إسحاق وابن جرير الطبري(32).
3- عاصم بن عمر بن قتادة المدني (ت 127هـ)
روى عن بعض الصحابة مثل جابر وأنس، وحدث عنه بشير بن الأشج وابن عجلان وابن إسحاق وغيرهم(33) . وكان عالما بالسيرة، ثقة كثير الحديث(34).
وقد أمره الخليفة عمر بن عبد العزيز أن يجلس في جامع دمشق فيحدث بمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومناقب أصحابه(35).
وقد ذكر له ابن إسحاق في السيرة أكثر من 27 قطعة، وذكر له ابن جرير الطبري قريبا من ذلك. وقد شملت أحداثا متفرقة من السيرة ومن المغازي. كما أن له عناية بالشعر وروايته، وروى عنه ابن إسحاق قصيدة كعب بن زهير “بانت سعاد فقلبي اليوم متبول” التي أنشدها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم(36).
[للمزيد اقرأ: كيف أخرج رسول الله خير أمة؟ (3-3) دور القيم .. وأهمية التوازن]
الطبقة الثالثة
من المعلوم أن تدوين السيرة خضع لسُنة التدرج والتطور؛ إذ مر بمراحل زمنية متتابعة حتى وصل إلى نضجه واستوائه وكماله، حيث ظهرت المؤلفات في السيرة. فكلما مر الزمن اتسعت دائرة العلماء، ولذلك كان فرسان هذه الطبقة كثيرين، لكن سنلقي الضوء على أشهرهم وهم ثلاثة:
1- موسى بن عقبة الأسدي
محدث ثقة من تلاميذ الزهري(37)، عاش في المدينة، وكانت له في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حلقة علم يمنح فيها إجازاته العلمية(38).
وموسى بن عقبة من الثقات المتخصصين في هذا الفن، ولذلك أثنى الإمام مالك على كتابه في المغازي وقال:
عليكم بمغازي موسى بن عقبة فإنه رجل ثقة طلبها على كبر السن ليقيد من شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكثر كما أكثر غيره.(39)
وقال مرة وقد سأله أحدهم عن المغازي:
عليك بمغازي الرجل الصالح موسى بن عقبة فإنها أصح المغازي.(40)
وقال يحيى بن معين:
كتاب موسى بن عقبة عن الزهري من أصح هذه الكتب.(41)
وقد أفاد الإمام البخاري من مغازيه في الصحيح(42)
واختصرها ابن عبد البر بعنوان: “كتاب الدرر في اختصار المغازي واليسر”(43). كما استخدمها الحافظ ابن حجر في كتابه “الإصابة في تمييز الصحابة”(44).
وقد كانت مغازي موسى بن عقبة معروفة ومتداولة بين العلماء، وقال الحافظ الذهبي في وصفها:
وأما مغازي موسى بن عقبة فهي في مجلد ليس بالكبير سمعناها، وغالبها صحيح، ومرسل جيد، لكنها مختصرة تحتاج إلى زيادة وبيان وتتمة.(45)
وقد حققها الأستاذ محمد باقشيش أبو مالك في كلية الآداب بأغادير، بعنوان: “المغازي”، وهو من منشورات هذه الكلية في عام 1415هـ/1995م.
2- معمر بن راشد الأزدي (ت 154هـ)
كان من أوعية العلم مع الصدق والتحري والورع والجلالة وحسن التصنيف(46)، أخذ العلم عن قتادة والزهري وهمام بن منبه وأبي إسحاق السبيعي وثابت البناني وغيرهم، وأخذ عنه عمرو بن دينار والسفيانان وابن المبارك والواقدي وعبد الرزاق بن همام الصنعاني(47).
وكان واسع العلم بالحديث والسيرة والمغازي، والرواية عنه في السيرة منثورة في الكتب الستة ومسند أحمد، ومصنف عبد الرزاق ومعاجم الطبراني الثلاثة، وفي كتابات من جاء بعده من كتاب السيرة مثل الواقدي؛ فقد روى عنه في الجزء الموجود من مغازيه قرابة خمسين قطعة(48). وقد ذكر له ابن النديم صاحب الفهرست كتاب: “المغازي”(49)
وكان أكثر من حمل عنه العلم عبد الرزاق الصنعاني حيث يقول:
كتبت عن معمر عشرة آلاف حديث(50)
والمطلع على كتاب “المصنف” لعبد الرزاق يجد مصداق هذا القول. وكتاب المغازي وكتاب الجهاد في مصنفه يغطي جل أحداث السيرة، وغالب رواياته عن معمر عن الزهري(51)
3- محمد بن إسحاق المطلبي (ت 151هـ)
هو إمام أهل المغازي، وكان كثير الرواية وتخصص في علم المغازي والأخبار، وهو صاحب السيرة النبوية(52) . وقد كون مدرسة في السيرة تكاد تكون مستقلة في منهجها عن مدرسة أهل الحديث، وكان من تلاميذها الواقدي وابن سعد وغيرهما.
قال عنه الحافظ الذهبي:
إنه أول من دون العلم بالمدينة قبل مالك وذويه، وكان في العلم بحرا عَجَّاجا، ولكنه ليس بالموجود كما ينبغي(53) . وجملة ما قيل عنه في الجرح والتعديل أنه صدوق يدلس؛ فإذا صرح بالتحديث يزول التدليس ويكون حديثه حسن(54).
وهو فارس ميدان السيرة بدون منازع، شهد له بذلك جمع من العلماء..
منهم الإمام الزهري الذي قال عنه: “لا يزال بالمدينة علم جم ما دام فيهم ابن إسحاق.
وقال عنه الإمام الشافعي:
من أراد أن يتبحر في المغازي فهو عيال على ابن إسحاق”(55).
وقال ابن خلكان:
وأما في المغازي والسير فلا تُجهل إمامته.(56)
وقد ألف ابن إسحاق سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي تشمل حياة الرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وشيئا من أخبار الجاهلية ثم سيرته صلى الله عليه وسلم بعد البعثة حتى الهجرة، ثم حياته في المدينة ومغازيه وبعوثه حتى وفاته صلى الله عليه وسلم.
وبذلك يكون مجموع ما دونه ابن إسحاق يمثل نظرته لوحدة السيرة تبعا لوحدة الرسالة والمنهج الرباني.
ومنهج ابن إسحاق في جملته يقوم على إيراد أخبار السيرة بالأسانيد التي وصلته، وهذه الأسانيد منها الموصول ومنها المنقطع والمعضل، في حين أن بعض الأخبار يوردها بدون إسناد. ويظهر هذا بشكل واضح في القسم الأول من السيرة.
وأحيانا يعتمد في معلوماته على مجهولين فيقول: “حدثني بعض أهل العلم” أو “حدثني بعض أهل مكة” أو “حدثني من لا أتهم”(57). وإذا ما شك في صحة الرواية عبر عن ذلك بقوله: “فيما يذكرون” أو “فيما يزعمون”(58).
كما أنه يجمع الروايات أحيانا مع بعضها دون تمييز لها، ويقدم لها بذكر الأسانيد مجموعة(59)، ويسوق ملخصها، ويستشهد بالآيات القرآنية، ويذكر أسباب النزول ويشرح بعض المعاني في الآيات(60).
وأحيانا يقدم بين يدي الروايات بتمهيد من عنده يلخص فيه الخبر، أو يبين سبب الحادثة ونتيجتها.
جمع ابن اسحاق بين منهجي المحدثين والإخباريين
وهذا المنهج الذي سلكه ابن إسحاق في تدوين السيرة، حاول أن يجمع فيه بين منهج المحدثين القائم على الأسانيد لغرض التوثيق العلمي، وبين منهج الإخباريين والمؤرخين المتحررين من الالتزام بالأسانيد التي كانت سمة العلم والمعرفة في ذلك العصر.
ولعله كان يهدف إلى إخراج السيرة النبوية في صورة مترابطة الأجزاء، متسلسلة الأحداث ليسهل تلقينها للناس وفهمها.
وهذا الأسلوب في الكتابة لا يروم التوثيق والضبط العلمي والتحري في الروايات، فابن إسحاق يجمع بين رواية الثقة وغير الثقة ويسوقها مساقا واحدا، دون أن يميز بين ألفاظ الرواة فيختلط قول الثقة مع غيره.
ونظرا للتوسع في هذه الطريقة في الكتابة، توسع ابن إسحاق في مصادره وتفرد بزيادات منها الصحيح والضعيف. كما أن له شذوذات خالف بها الصحيح الذي أوردته كتب الحديث.
وعلى كل حال فابن إسحاق يعتبر رائدا للكتابة في تدوين السيرة، وصاحب مدرسة لها منهجها المستقل عن مدرسة علماء الحديث.
وقد سهل للناس دراسة السيرة وتنظيمها في نمط قصصي متسلسل، ولذا وصفه العلماء بأنه إمام في المغازي والسير، ويكفيه فخرا أنه توجد في سيرته وثيقة على جانب كبير من الأهمية دونها وحده، ولم يذكرها أحد من كتاب السيرة الأولين.
تلك الوثيقة هي معاهدة المدينة المشهورة التي وقعها النبي صلى الله عليه وسلم مع قبائل المدينة ومعهم يهود بني النضير وبني قينقاع وبني قريضة، وهي المسماة بـ “نظام مجتمع المدينة”، ويسميها بعض الكتاب المعاصرين، “دستور المدينة”.
………………………………………
هوامش:
- بحوث في السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي، لعبد الشافي محمد عبد اللطيف، ص 20.
- الطبقات لابن سعد، 5/152.
- تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني، 1/97.
- دائرة المعارف الإسلامية، مقال تسترسين، 1/5.
- الطبقات لابن سعد، 5/210.
- المصدر السابق نفسه، ج 5، ص 133.
- تاريخ الأمم والرسل للطبري، 2/328، 421، 422.
- البداية والنهاية لابن كثير، 9/101.
- الفهرست، ص 123.
- انظر: مغازي عروة بن الزبير (نسخة مستخرجة). نشره مكتب التربية بدول الخليج في الرياض سنة 1400هـ/1980م.
- الطبقات لابن سعد، 5/310. وتهذيب التهذيب لابن حجر، 4/321.
- تهذيب التهذيب لابن حجر، 4/69.
- المسند لأحمد بن حنبل، 5/222. تاريخ الأمم والرسل للطبري، 1/111.
- السنن للترمذي، 2/251.
- الكاشف للذهبي، 2/7.
- تهذيب التهذيب لابن حجر، 10/361.
- التاريخ لابن معين، 2/538. والتاريخ للدرامي، ص 44-203. وتاريخ الثقات للعجلي، ص 421.
- ذيل المذيل للطبري، ص 97. وسير أعلام النبلاء للذهبي، 5/329.
- سير أعلام النبلاء للذهبي، 5/329.
- المصدر السابق نفسه، 5/328.
- حلية الأولياء لأبي نعيم الأصفهاني، 3/361.
- المصدر السابق نفسه، 3/361.
- المجتمع المدني في عهد النبوة لأكر ضياء العمري، ص 40.
- الروض الأنف للسهيلي، 1/205-214.
- المصدر السابق نفسه، 1/214.
- أنظر فهارس تاريخ الطبري، ص 286.
- منهج كتابة التاريخ الإسلامي لمحمد بن صامل السلمي، ص 302-303.
- السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي لعبد الشافي محمد عبد اللطيف، ص 28.
- تاريخ الثقات للعجلي، ص 521. وتهذيب التهذيب لابن حجر، 12/428-439.
- السيرة النبوية لعبد الشافي محمد عبد اللطيف، ص 29.
- تاريخ الرسل والأمم، 3/154-158.
- روى عنه ابن إسحاق في أكثر من 20 موضعا في سيرته. وروى عنه ابن جرير في تاريخه 72 قطعة كلها في أحداث تتعلق بالسيرة.
- الكاشف للذهبي، 2/46-47.
- الطبقات لابن سعد (القسم المتمم لتابعي أهل المدينة)، ص 128.
- المصدر السابق نفسه، ص 128.
- أنظر السيرة النبوية لابن هشام، 2/503.
- التاريخ للدرامي، ص 204. وتهذيب التهذيب لابن حجر، 10/360-361.
- الجامع الصحيح للبخاري، كتاب المغازي، 5/44.
- سير أعلام النبلاء للذهبي، 6/125.
- تهذيب التهذيب لابن حجر، 10/361.
- سير أعلام النبلاء للذهبي، 6/117.
- أنظر على سبيل المثال: الجامع الصحيح، كتاب المغازي، 5/44.
- تاريخ التراث العربي لفؤاد سزكين، 285.
- الإصابة لابن حجر، 3/1349.
- سير أعلام النبلاء، 6/116.
- سير أعلام النبلاء، 6/6.
- المصدر السابق نفسه، 7/6.
- أنظر: مغازي الواقدي، 1/184، 196، 199، 354، 363، 384، 2/441.
- أنظر: الفهرست لابن النديم، 1069.
- سير أعلام النبلاء للذهبي، 7/11.
- أنظر: كتاب المغازي وكتاب الجهاد في المجلد الخامس من “المصنف” لعبد الرزاق.
- سير أعلام النبلاء للذهبي، 7/53.
- المصدر السابق نفسه، 7/35.
- المصدر السابق نفسه، 7/43.
- المصدر السابق نفسه، 7/36.
- وفيات الأعيان، ج 2، ص 276.
- أنظر سيرة ابن هشام، 1/391، 537، 634، 639، 644.
- المصدر السابق نفسه، 1/459، 520.
- المصدر السابق نفسه، 1/606.
- المصدر السابق نفسه، 1/428، 434ـ 438، 545.
لتحميل البحث كاملا على الرابط التالي:
اقرأ أيضا: