إنكار لوط عليه السلام على قومه الفاحشة كان إنكارا للفاحشة نفسها ولأصلها الذي تفرعت عنه. وأصل الخلل هو الداء الساري في الأمم قبله واليوم؛ وهو خلل العقائد في التشريع من دون الله ورد أمره تعالى.

مقدمة

الحمد لله رب العالمين وصلى لله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه؛ وبعد:

فمما يلفت الأنظار في قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذين قصَّهم الله عز وجل علينا في كتابه الكريم أن كل رسول كان يبدأ الدعوة مع قومه بقوله: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) إلا قوم لوط فإن لوطًا عليه السلام لم يَرد في القرآن أنه بدأ دعوته لقومه بما بدأ به الأنبياء قبله وبعده؛ وإنما كان أول ما بدأهم به تشنيعه عليهم بفاحشة اللواط الشاذة عقلًا وفطرة فقال الله تعالى عن دعوته لقومه في سورة الأعراف: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ * وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) [الأعراف: 80- 82].

وقال تعالى عن دعوته لهم في سورة هود: (وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ * وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ * قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ) [هود: 77- 79].

وقال تعالى عن دعوته لهم في سورة الشعراء: (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ * قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) [الشعراء: 160- 167].

وقال عنه سبحانه في سورة النمل: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) [النمل: 54- 55].

وقال عنه سبحانه في سورة العنكبوت: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)  [العنكبوت: 28- 29].

ولم أقف في قصة لوط عليه السلام أنه بدأ قومه بدعوته لهم بترك عبادة الأصنام وعبادة الله وحده كما كان إخوانه من الأنبياء يدعون أقوامهم إلى ذلك.

من دلالات خطاب لوط لقومه

وبعد تدبر هذه الآيات الواردة في قصة لوط مع قومه ظهر لي من ذلك الأمور التالية:

الأمر الأول: الفاحشة مقترنة بالشرك والتكذيب

إن كون لوط عليه السلام لم يذكر في القرآن أنه بدأ بدعوة قومه إلى التوحيد وترك الشرك لا يعني أنه لم يأمرهم بعبادة الله وحده ولم ينههم عن عبادة الأصنام بل أمرهم بذلك كما هو الشأن في دعوة الأنبياء من قبله قال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل: 36].

فقوم لوط كانوا مشركين وكفارًا ولذا أرسل الله لهم لوطًا عليه السلام وهذا يظهر في قوله تعالى (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء:160].

وتكذيبهم للمرسلين يعني كفرهم برسولهم والرسل من قبله وما كانوا يدعون إليه من التوحيد وقد ضرب الله مثلًا للكفار امرأة نوح وامرأة لوط وذلك في قوله تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ) ولكن لما انفردوا عن الأمم السابقة وزادوا عليهم بشرعنة فاحشة اللواط واستحلالها صارت علمًا عليهم وطغى ذلك على عبادة الأصنام لأن تشريع ما لم يأذن الله به كفر وشرك بالله تعالى في ربوبيته وهو أصل أنواع الشرك الأخرى.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

“وقال في قوم لوط (وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ) [هود: 78]. وكانوا كفارًا من جهات:

  • جهة استحلال الفاحشة.
  • ومن جهة الشرك.
  • ومن جهة تكذيب الرسل. ففعلوا هذا وهذا.

ولكن الشرك والتكذيب مشترك بينهم وبين غيرهم، والذي اختصوا به الفاحشة فلهذا عوقبوا عقوبة تخصهم ولم يعاقَب غيرهم بمثلها”. (1تفسير آيات أشكلت من القرآن ص:391 ت: عبدالعزيز الخليفة)

الأمر الثاني: أصل معصيتهم التشريع والاستحلال

وهو بيت القصيد من هذه المقالة ألا وهي أن تشنيع لوط عليه السلام على قومه لم يكن ليقدّم إنكاره عليهم هذه المعصية ويطغى ذلك على إنكاره عليهم الشرك بالله وعبادة غير الله عز وجل؛ إذن لماذا بادءهم بإنكاره فاحشة اللواط وطغى ذلك على إنكاره عليهم الشرك بالله تعالى..؟

والجواب والله أعلم أن الفاحشة التي كانوا يمارسونها ويعلنونها في نواديهم لم تكن مجرد معصية؛ وإنما هي شرعنة لهذه الفاحشة وتشريع من دون الله حتى أصبحت في حياتهم أمرًا مشروعًا ونظامًا مقننًا بحيث ينكر على من يخرج عليه ويعارضه ويسخر منه لكونه يريد الطهر والعفاف قال الله تعالى عنهم: (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) [النمل:56].

إذن فإن لوطًا عليه السلام حينما أنكر عليهم بادئ ذي بدء هذه الفاحشة الشنيعة التي لم يسبقهم إليها أحدٌ من العالمين فإنما أنكر عليهم شركًا أكبرًا هو أصل عبادة الأصنام من دون الله لأنهم اتخذوا أنفسهم أندادًا لله يشرعون ما لم يأذن به الله ويجعلونه نظامًا وقانونًا يستحلون به فاحشتهم البشعة، ويصفون من خرج عنه بـ “المتطهر” سخريةً به وذلك لأن فعلهم لفاحشة اللواط تجاوز كونه معصية يشعر فاعلها بالذنب ويختفي ويستتر بها إلى كونها شريعة ونظامًا يعلنونه في نواديهم ويتواصون به ويحْمونه وهذا لون من ألوان الشرك بالله عز وجل، ألا وهو الشرك به سبحانه في حكمه وتشريعه.

وهذا اللون من الشرك قد يفوق في شناعته الشرك بالنسك والذبح والنذر الذي يمارسه عُبّاد الأصنام والقبور لأنه تشريع ما لم يأذن به الله تعالى وهذا شرك في الربوبية وهو أصل كل شرك بالله.

امتدادات فاحشتهم في الواقع المعاصر

وما انتهى إليه قوم لوط انتهت إليه بعض دول الغرب في أوروبا وأمريكا اليوم، فبدؤوا بالمراحل نفسها التي بدأ بها قوم لوط، حتى آخرهن، فأقروا وشرعوا إتيان الذكور للذكور، والإناث للإناث، ووضعوا العقود والوثائق لذلك وأمرهم سينتهي إلى وبال؛ سنة الله في أمثالهم من الأمم.

وكما شرع قوم لوط فاحشة إتيان الذكور فاستحقوا بذلك وصْفهم بالشرك في الربوبية نجد اليوم من يشرع المنكرات والفواحش، ومن ذلك ما نراه اليوم في بلدان المسلمين من شرعنة الفساد والغناء والزمر والطبل والرقص وسفور المرأة ونزع حجابها جهارًا نهارًا أمام الرجال في المسارح والنوادي بحجة الترفيه ونبذ التشدد وترسيخ مبدأ “الوسطية والإسلام المعتدل” زعموا..!  بلا منكِر ولا معارِض. ومَن أخذته الغيرة والحمية لدينه فقام ينكر هذه المحرمات فالسجن والحبس مآله فيالله العجب ما أشبه الليلة بالبارحة، وما أشبه اعتراض قوم لوط على من أنكر عليهم فاحشتهم الشنيعة وتهديدهم له بالإخراج من البلد لتطهره ورفْض فطرته ودينه لهذه الفاحشة التي يجاهرون بها ويأتون بها في نواديهم جهارًا نهارًا.

ما أشبه هذا بما يمارس اليوم في بلدان المسلمين من إعلان المنكرات في النوادي والمسارح والاحتفالات المعلنة يتفاخر بها ويجاهر بها، والويل كل الويل لمن يعارضها؛ أليس هذا شرعنة للمنكرات والمحرمات وتطبيع لها في مجتمعات المسلمين ليؤل ذلك إلى استحلال حرمات الله عز وجل..؟!

خاتمة

إن ما حصل ويحصل في السنوات الأخيرة من تسارع شديد نحو الفساد ومسخ الهوية الدينية وإعلان المنكرات جهارًا نهارًا لَأمر خطير وشر مستطير ينذر بعقوبة عاجلة؛ لأن الأمر لم يعد مجرد عاص تفعل ويستخفى بها ويشعر فاعلها بالذنب لأنه فعل محرمًا وهذا لا يخلو منه مجتمع، ويُرجى لأهله التوبة؛ وإنما تجاوز ذلك إلى المباهاة بهذه المحرمات والرضى بها وعدم الشعور بالذنب في فعلها، والإنكار على من ينكرها وغياب الحياء والغيرة من فاعليها أو من يحضرها؛ وهنا لم يصبح الأمر مجرد معاص تقع كغيرها من المعاصي التي لا يخلو منها مجتمع في أي مكان وزمان ويُرجَى لأهلها التوبة وإنما الأمر قد تجاوز الآن منطقة المعاصي إلى منطقة العقائد والأصول بشرعنة الفساد واستحلال المحرمات؛ فرحماك رحماك يا أرحم الراحمين.

نسأل الله عزّ وجلّ أن يبرم لهذه الأمة أمرًا رشدًا يعز فيه أهل طاعته ويُذل ويُقمع فيه أهل الإفساد والنفاق ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.. والحمد لله رب العالمين.

………………………………………….

هوامش:

  1. تفسير آيات أشكلت من القرآن ص:391 ت: عبد العزيز الخليفة.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة