يريد الشيطان أن يُهلك ابن آدم، ويرغب في تخسيره وغُبنه، ولهذا فالإهلاك مراتب، إن ظفر بالأكثر خسارا؛ وإلا قنع بالأقل، والسعيد من بصُر بالطريق.

مقدمة

يهلك الإنسان إذا غفل أن له عدوا كامنا؛ يرغب في  إسكانه النار؛ شهوته في رؤية الخسارة والندم لابن آدم، وفرحه أن يكفر بربه ويعادي أولياءه.

عدو لا ينام ولا يفتر عن العداء والكيد، يرتّب جنوده وخنادقه، ويرتب مكره وكيده، ولا بد من استيقاظ المؤمن نحو ربه تعالى ليطلبه، ونحو عدوه ليسد عليه المداخل ولا يقطع عليه الطريق.

وأسوق لبيان هذا الأمر الجلل كلامًا بديعًا للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى يوضح فيه خطر الشيطان وخطواته المتنوعة في الإغواء، واستخدامه جميع أسباب الغواية في إبعاد الناس عن طريق الاستقامة، سواء كان بالشبهات أو الشهوات، وفرحه بأي شيء يقدح في عقيدة المسلم أو سلوكه.

يقول رحمه الله تعالى:

“… فإنه ـ أي: الشيطان الموكل بالعبد ـ يريد أن يظفر به في عقبة من سبع عقبات، بعضها أصعب من بعض، لا ينزل منه من العقبة الشاقة إلى ما دونها إلا إذا عجز عن الظفر به فيها:

العقبة الأولى: عقبة الكفر

عقبة الكفر بالله وبدينه ولقائه، وبصفات كماله، وبما أخبرت به رسله عنه؛ فإنه إن ظفر به في هذه العقبة بردت نار عداوته واستراح؛ فإن اقتحم هذه العقبة! ونجا منها ببصيرة الهداية، وسلِم معه نور الإيمان طلبه على:

العقبة الثانية: وهي عقبة البدعة

إما باعتقاد خلاف الحق الذي أرسل الله به رسوله، وأنزل به كتابه، وإما بالتعبّد بما لم يأذن به الله: من الأوضاع والرسوم المحدثة في الدين التي لا يقبل الله منها شيئًا، والبدعتان في الغالب متلازمتان قلّ أن تنفكَّ إحداهما عن الأخرى..

فإن قطع هذه العقبة، وخلص منها بنور السنَّة، واعتصم منها بحقيقة المتابعة، وما مضى عليه السلف الأخيار، من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وهيهات أن تسمح الأعصار المتأخرة بواحدة من هذا الضرب! فإن سَمَحَتْ به نَصَب له أهلُ البِدَع الحبائل، وبَغُوه الغوائل، وقالوا مبتدِع محدِث.

العقبة الثالثة: وهي عَقبة الكبائر

فإن ظفر به فيها زَيَّنها له، وحسّنها في عينه، وسوَّف به، وفتح له باب الإرجاء، وقال له: “الإيمان هو نفس التصديق؛ فلا تقدح فيه الأعمال”!! وربما أجرى على لسانه وأذنه كلمة طالما أهلك بها الخلق، وهي قوله: «لا يضر مع التوحيد ذنب، كما لا ينفع مع الشرك حسنة».

البدعة أخطر أم الكبائر..؟

والظفر به في “عقبة البدعة” أحب إليه لمناقضتها الدين، ودفْعها لما بعث الله به رسوله، وصاحبُها لا يتوب منها، ولا يرجع عنها، بل يدعو الخلق إليها، ولتضمنها القول على الله بلا علم، ومعاداة صريح السُنّة ومعاداة أهلها، والاجتهاد على إطفاء نور السنة، وتولية من عزله الله ورسوله، وعزل من ولّاه الله ورسوله، واعتبار ما ردّه الله ورسوله، ورد ما اعتبره، وموالاة من عاداه، ومعاداة من والاه، وإثبات ما نفاه، ونفي ما أثبته، وتكذيب الصادق، وتصديق الكاذب، ومعارضة الحق بالباطل، وقلب الحقائق بجعل الحق باطلًا، والباطل حقًّا، والإلحاد في دين الله، وتعمية الحق على القلوب، وطلب العوج لصراط الله المستقيم، وفتح باب تبديل الدين جملة.

فإن البدع تستدرج بصغيرها إلى كبيرها، حتى ينسلخ صاحبها من الدين كما تنسلُّ الشعرة من العجين، فمفاسد البدع لا يقف عليها إلا أرباب البصائر، والعميان ضالّون في ظلمة العَمَى ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ۚ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا﴾ (النور: 40)

فإن قطع هذه العقبة بعصمة من الله، أو بتوبة نصوح تنجيه منها، طلبه على:

العقبة الرابعة: وهي عقبة الصغائر

فكال له منها بالقُفْزان (1مثاقيل صغار)، وقال: “ما عليك إذا اجتنبت الكبائر ما غشيت من اللَّمَم، أَوَمَا علمت بأنها تُكَفَّر باجتناب الكبائر وبالحسنات..؟”.

ولا يزال يهوِّن عليه أمرها حتى يصرَّ عليها، فيكون مرتكب الكبيرة الخائف الوجِل النادم أحسن حالًا منه، فالإصرار على الذنب أقبح منه، ولا كبيرة مع التوبة والاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار.

وقد قال ﷺ: «إياكم ومحقرات الذنوب، ثم ضرب لذلك مثلًا بقوم نزلوا بفلاة من الأرض، فأعوزهم الحطب، فجعل هذا يجيء بعود وهذا بعود، حتى جمعوا حطبًا كثيرًا؛ فأوقدوا نارًا، وأنضجوا خبزتهم؟ فكذلك فإن محقرات الذنوب تجتمع على العبد وهو يستهين بشأنها حتى تهلكه». (2عزاه السيوطي في «الجامع الصغير» لأحمد والطبراني والبيهقي، وقال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح. وقال ابن حجر: سنده حسن «فيض القدير» (128/3)، وصححه الألباني في «صحيح الجامع» رقم (2686))

العقبة الخامسة: الانشغال بالمباحات

وهي عقبة المباحات التي لا حرج على فاعلها؛ فشغله بها عن الاستكثار من الطاعات، وعن الاجتهاد في التزوُّد لمعاده، ثم طمع فيه أن يستدرجه منها إلى ترك السنن، ثم من ترك السنن إلى ترك الواجبات، وأقلّ ما ينال منه: تفويته الأرباح، والمكاسب العظيمة، والمنازل العالية، ولو عرف السعر لما فوّت على نفسه شيئًا من القربات، ولكنه جاهل بالسعر.

فإن نجا من هذه العقبة ببصيرة تامة ونورٍ هادٍ، ومعرفة بقدر الطاعات والاستكثار منها، وقلّة المقام على الميناء، وخطر التجارة، وكرم المشترِي، وقدر ما يعوَّض به التجار، فبخل بأوقاته، وضَنَّ بأنفاسه أن تذهب في غير ربحٍ؛ طلبه العدو على:

العقبة السادسة: عقبة الأعمال المرجوحة المفضولة من الطاعات

فأمره بها وحسّنها في عينه، وزينها له، وأراه ما فيها من الفضل والربح، ليشغله بها عما هو أفضل منها، وأعظم سببًا وربحًا؛ لأنه لما عجز عن تخسيره أصل الثواب، طمع في تخسيره كماله وفضله، ودرجاته العالية؛ فشغله بالمفضول عن الفاضل، وبالمرجوح عن الراجح، وبالمحبوب لله عن الأحب إليه، وبالمُرْضِي عن الأرضى له.

ولكن أين أصحاب هذه العقبة؟ فهم الأفراد في العالم، والأكثرون قد ظفر بهم في العقبات الأول.

فإن نجا منها بفِقْهٍ في الأعمال ومراتبها عند الله، ومنازلها في الفضل، ومعرفة مقاديرها، والتمييز بين عاليها وسافلها ومفضولها وفاضلها، ورئيسها ومرءوسها، وسيدها ومَسُودها؛ فإن في الأعمال والأقوال سيدًا ومسودًا، ورئيسًا ومرءوسًا، وذروة وما دونها، كما في الحديث الصحيح «سيد الاستغفار: أن يقول العبد: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أن الحديث». (3البخاري (6306))، وفي الحديث الآخر: «الجهاد ذروة سنام الأمر». (4رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني في «الإرواء» (413))

وفي الأثر الآخر: «إن الأعمال تفاخرت، فذكر كل عمل منها مرتبتة وفضله، وكان للصدقة مزية في الفخر عليهن». (5الحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأقره الذهبي (1/ 416))

ولا يقطع هذه العقبة إلا أهل البصائر والصدق من أولي العلم، والسائرين على جادة التوفيق، قد أنزلوا الأعمال منازلها، وأعطوا كل ذي حق حقه.

العقبة السابعة: تسلط العدو

فإذا نجا منها لم يبق هناك عقبة يطلبه العدو عليها سوى واحدة لا بد منها، ولو نجا منها أحد لنجا منها رسل الله وأنبياؤه، وأكرم الخلق عليه.

وهي عقبة تسليط جنده عليه بأنواع الأذى، باليد واللسان والقلب، على حسب مرتبته في الخير، فكلما عَلَتْ مرتبته أجلب عليه العدو بخيله ورَجِلِه، وظاهر عليه بجنده، وسلَّط عليه حزبه وأهله بأنواع التسليط.

وهذه العقبة لا حيلة له في التخلص منها؛ فإنه كلما جَدّ في الاستقامة والدعوة إلى الله، والقيام له بأمره، جَدّ العدو في إغراء السفهاء به، فهو في هذه العقبة قد لبِس لَأْمة الحرب، وأخذ في محاربة العدو لله وبالله؛ فعبوديته فيها عبودية خواص العارفين، وهي تسمى عبودية المراغَمة، ولا ينتبه لها إلا أولو البصائر التامة، ولا شيء أحب إلى الله من مراغمة وليّه لعدوّه، وإغاظته له وقد أشار سبحانه إلى هذه العبودية في مواضع من كتابه:

أحدها: قوله: ﴿وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً﴾ (النساء: 100)، سمى المهاجر الذي يهاجر إلى عبادة الله مراغمًا يراغم به عدو الله وعدوه.

والله يحب من وليّه مراغمة عدوه، وإغاظته، كما قال تعالى: ﴿مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (التوبة: 120)

وقال تعالى: في مثل رسول الله ﷺ وأتباعه: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ۚ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ۗ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ (الفتح: 29).

فمن تعبّد الله بمراغمة عدوه، فقد أخذ من “الصدّيقية” بسهْم وافر، وعلى قدر محبة العبد لربه وموالاته له، ومعاداته لعدوه؛ يكون نصيبه من هذه المراغمة.

ولأجل هذه المراغمة حُمد التبختر بين الصفين، والخيلاء والتَّبَخْتُر عند صدقة السر؛ حيث لا يراه إلا الله؛ لما في ذلك من إرغام العدو، وبذل محبوبه من نفسه وماله لله عز وجل». (6«مدارج السالكين» (1/237 -241) ت البغدادي) اهـ

خاتمة

هناك المرابط على ثغور قلبه ونفسه، كما المرابط على ثغور المسلمين؛ لا يسمح لعدوه أن يظفر منه بشيء، ولو غفل لحظة فسرق منه مثقالا عوّضه بأضعاف العمل. عين المؤمن البصير لا تترك الطريق.

وهناك من ولّي الباب ظهره؛ وأعطى للعدو مفاتيح الخزانة فلم يترك له شيئا، حتى زامله في الدنيا، ويُحشر معه مقرّنا في الصفاد يوم القيامة؛ يتلاعنان ويتعادان.

والموفق من وفقه الله، وهذا المقال تذكرة على الطريق، حذرا من قُطاع الطريق.

……………………………….

الهوامش:

  1. مثاقيل صغار.
  2. عزاه السيوطي في «الجامع الصغير» لأحمد والطبراني والبيهقي، وقال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح. وقال ابن حجر: سنده حسن «فيض القدير» (128/3)، وصححه الألباني في «صحيح الجامع» رقم (2686).
  3. البخاري (6306).
  4. رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني في «الإرواء» (413).
  5. الحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأقره الذهبي (1/ 416).
  6. «مدارج السالكين» (1/237 -241) ت البغدادي.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة