المعاصي المكفرة تنقل عن الملة بنفسها، لأنها تخرم أصل الإيمان، ولا تعلق لها بالاستحلال والجحود، فاشتراط الاستحلال والجحود في المعاصي المكفرة بدعة منكرة.

أول واجب على المسلم تجاه المعصیة

إن أول ما یجب على المسلم تجاه المعصیة ھو قبول الالتزام بتحریمھا واعتقاد ذلك التحریم فمن لم یلتزم حكم ﷲ تعالى ولو في جزئیة فلیس بمسلم. ومن استحل الحرام وعاند المحرم فقد ناقض الالتزام.

قال شیخ الإسلام: (ومن لم یلتزم حكم ﷲ ورسوله فھو كافر)1(1) منھاج السنة النبویة (5 /84) ..

فلو فرض أن المسلم في لحظة ضعف ارتكب محرما من المحرمات فإنه یصیر بذلك من أصحاب الوعید ولكن لا یكون كافرا لطالما أنه ملتزم بحكم ﷲ قابل له غیر مستحل ولا معاند؛ ومن كان كذلك فلا بد أن یندم على ما ارتكبه من معصیة ﷲ تعالى ویسعى لمحو آثارھا؛ فإن انعدام الندم بعد المعصیة وموت الواعظ القلبي مع التمادي والفرح بالمعصیة والإصرار على إتیانھا، دلیل على انتفاء كمال الایمان الواجب من القلب لكن مع ذلك لا یكفر ھذا العبد لأن الندم وتوابعھ أمور قلبیة لا یطلع علیھا إلا علام الغیوب.

واعظ ﷲ في قلب كل مسلم ینھى عن المعاصي

وھذا التأنیب الداخلي في نفس العاصي ھو تأنیب واعظ ﷲ الذي في قلب كل مسلم، فعن النواس بن سمعان قال: قال رسول ﷲ صلى الله عليه وسلم: «ضرب ﷲ مثلا صراطا مستقیما، وعلى جنبتي الصراط سوران بینھما، وأبوب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة ، وعلى باب الصراط داع یقول: یا أیھا الناس ادخلوا الصراط جمیعا ولا تعوجوا، وداع یدعو من فوق الصراط، فإذا أراد إنسان فتح شيء من تلك الأبواب قال: ویحك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه. فالصراط: الإسلام، والستور: حدود ﷲ ، والأبواب المفتحة: محارم ﷲ، وذلك الداعي على رأس الصراط: كتاب ﷲ ، والداعي من فوق الصراط: واعظ ﷲ في قلب كل مسلم»2(2) الشریعة للآجري ( 1/ 294). .

زوال كمال الإیمان الواجب بالمعصیة

وھذا الصنف من المسلمین ھم الذین فقدوا كمال الإیمان الواجب دون أصل الإیمان.

قال شیخ الإسلام: (المسلم إذا أتى الفاحشة لا یكفر وإن كان كمال الإیمان الواجب قد زال عنه كما في الصحیحین عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا یزني الزاني حین یزني وھو مؤمن ولا یسرق السارق حین یسرق وھو مؤمن ولا یشرب الخمر حین یشربھا وھو مؤمن ولا ینتھب نھبة ذات شرف یرفع الناس إلیه فیھا أبصارھم وھو مؤمن …. » وذلك أن معه أصل الإیمان وأصل الاعتقاد أن ﷲ حرم ذلك ومعه خشیة عقاب ﷲ ورجاء رحمة ﷲ وإیمانه بأن ﷲ یغفر الذنب ویأخذ به فیغفر ﷲ له به)3(3) الاستقامة ( 2/ 181-182) بتصرف یسیر. .

الإصرار على المعصیة وأثره على الإیمان

فالإصرار على المعصیة: ھو الاستمرار والثبوت والإقامة على فعلھا وعدم الإقلاع عنھا، والعزم بالقلب على فعلھا متى ظفر بھا؛ وإنما حذرت الشریعة من الإصرار على المعاصي لأنه یخشى على المصر المسترسل فیھا أن ینتقل من مجرد الإصرار إلى الفرح بالمعصیة ونسیان ﷲ والدار الآخرة والأمن من مكر ﷲ تعالى4(4) انظر قریبا من ھذا المعنى الزواجر 1 / 147 .

فالإصرار على المعاصي یضعف الإیمان فیزیل كماله الواجب ولكن لا یزیل أصله بالكلیة وقد یزیله مآلا لأنھم نصوا على أن المعاصي برید الكفر، كما قال تعالى: ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور:63] والفتنة في الآیة معناھا الكفر أي مخالفة أوامر ﷲ ورسوله تفضي إلى الكفر فتكون المعصیة سببا في الكفر؛ فرفع الصوت فوق صوت النبي كبیرة من أعظم الكبائر قد تفضي بصحابھا إلى الردة وحبوط العمل قال تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾[الحجرات:2].

فالمعاصي من جھة ھي برید الكفر قد تفضي إلیه مثل إفضائھا إلى كراھیة ما أنزل ﷲ من العقائد والأحكام فإن ذلك كفر بواح.

ومن جھة أخرى قد تؤثر على التزام حكم ﷲ تعالى وقبوله والتسلیم له والخضوع له فیرده العاصي ولا ینقاد له فیكون مستحلا له كارھا لتحریمه أو معرضا عنه بالكلیة فیقع في كفر الإعراض كما قال تعالى: ﴿ بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة:81].

فإن من السلف من فسر السیئة والخطیئة في ھذه الآیة بالشرك؛ ومنھم من فسرھا بالكبائر ذلك بأن إحاطة الكبائر بصاحبھا قد تفضي به إلى الكفر فتورث فیه محبة المعاصي محبة مستلزمة لكراھیة أحكام ﷲ وردھا، وھذا كفر وھو غیر محبة المعصیة طبعا وشھوة فھذا لون آخر.

المعاصي المفسقة والمعاصي المكفرة

قد علم من النصوص والسيرة النبوية وعمل الصحابة والسلف عموما وأصول أهل السنة والحديث أن المعاصي المفسقة غير المعاصي المكفرة. فالأولى -من حيث هي- لا تنقل عن الملة إلا بالاستحلال؛ لأنها تخرم الإيمان الواجب فقط. فالناقل عن الملة هو الاستحلال، ولو تجرد عن المعصية، لأنه يخرم أصل الإيمان. فاستحلال المحرمات مثل جحود الواجبات كلاهما تكذيب لخبر الله تعالى.

ومن دليل هذه الجملة أن قدامة بن عبدالله شرب الخمر هو وطائفة وتأولوا قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [المائدة: 93]، فلما ذُكِرَ ذلك لعمر بن الخطاب اتفق هو وعلي بن أبي طالب وسائر الصحابة على أنهم إن اعترفوا بالتحريم جُلدوا، وإن أصروا على استحلالها قتلوا.

فظهر ظهورا جليا أن المعاصي المفسقة لا تنقل عن الملة بنفسها ولكن بالاستحلال والجحود.

أحكام الإیمان والكفر تجري على الظاھر

أما المعاصي المكفرة فإنها تنقل عن الملة بنفسها، لأنها تخرم أصل الإيمان، ولا تعلق لها بالاستحلال والجحود، فاشتراط الاستحلال والجحود في المعاصي المكفرة بدعة منكرة؛ تنزع عن أحكام الظاهر سلطانها الشرعي، وتحيل على باطن لا يعلمه إلا الله تعالى. وقد قرر أئمة السنة أن أحكام الدنيا تجري على الظاهر والباطن تبع له، وأن أحكام الآخرة تجري على الباطن والظاهر تبع له.

قال الحافظ ابن حجر: ( أجمعوا على أن أحكام الدنيا على الظاهر والله يتولى السرائر. وقد قال صلى الله عليه وسلم لأسامة: (هلا شققت عن قلبه) وقال للذي ساره في قتل رجل: (أليس يصلي) قال: نعم. قال: (أولئك الذين نهيت عن قتلهم)5(5) فتح الباري لابن حجر (12/ 273)..

آثار بدعة اشتراط الاستحلال والجحود في المعاصي المكفرة

وبناء على بدعة اشتراط الاستحلال والجحود في المعاصي المكفرة فإنه يستوي شرب الخمر ولعن الأنبياء وقتلهم وتدنيس المصحف إذ تصير كلها مجرد معاص مفسقة لا تخرم أصل الإيمان ولا تنقل عن الملة إلا بالاستحلال والجحود.

وبهذا الأصل البدعي يزول أثر أسباب الكفر الشرعية التي لا يثبت إلا بها لأنها هي الظواهر التي أقامها الشارع ورتب عليها مسبباتها، ذلك بأن الاستحلال والجحود لا يظهر أي منهما إلا في الأقوال والأعمال. ولا عبرة بأي منهما ما دام في الباطن. فما لم يخرج إلى الظاهر بقول أو فعل أو ترك فلا ترتب عليه أحكام الدنيا لأن وجوده في الباطن يجعله بمنزلة البواعث القلبية على الكفر، وهي غير أسباب الكفر. فالعناد مثلا باعث من بواعث الكفر وهو الذي يبعث على إظهار الاستحلال والجحود. فنقول: استحل الحرام عنادا. بمعنى أنه يعلم أنه حرام ولكن منعه من التزامه عناده، كما منع فرعون من الإيمان استكباره، ومنع من الإيمان إبليس إباؤه، ومنع من الإيمان أبا طالب تقليده لملة الأشياخ.

فاشتراط الاستحلال والجحود في المعاصي المكفرة لازمه انتفاء الكفر كله إلا كفر الجحود والاستحلال. فمن ركب صريح أعمال وأقوال الكفر والردة لا يكفر حتى يجحد ويستحل بل ويصرح بذلك الجحود والاستحلال، فما لم يصرح بالاستحلال فله حكم من ارتكب المعاصي المفسقة كالشرب والسرقة ونحوها.

وهذا أشنع ما عرف من البدع المضلة.

قال الحق سبحانه وتعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) [الحجرات: 7]

قال محمد بن نصر المروزي: (لما كانت المعاصي بعضها كفر وبعضها ليس بكفر فرق بينها فجعلها ثلاثة أنواع: نوع منها كفر ونوع منها فسوق وليس بكفر ونوع عصيان وليس بكفر ولا فسوق. وأخبر أنه كرهها كلها إلى المؤمنين. ولما كانت الطاعات كلها داخلة في الإيمان وليس فيها شيء خارج عنه لم يفرق بينها)6(6) مجموع الفتاوى.. (7/ 42)...

فكلام المروزي صريح في أن المعاصي منها معاص مكفرة ومنها معاص مفسقة.

ونزيد في البيان فنقول، إن شرب الخمر معصية مفسقة لا تنقل عن الملة وصاحبها يسمى الفاسق الملي لأنه لم يخرج عن الملة بالشرب. أما لو استحله فإنه يرتد بذلك ولو لم يتعاط شربها فالاستحلال هو الناقل عن الملة لا الشرب من حيث هو.

وهذا غير المعصية المكفرة بنفسها والتي لا تعلق لها بالاستحلال. ومنها وطء المصحف أو تنجيسه وإلقاؤه في الحش أو لعن النبي صلى الله عليه وسلم وقتله أو ادعاء النبوة أو الإلهية أو إبطال طاعة الله تعالى والإلزام بطاعة غيره أو إلغاء مصادر التلقي عنه والاعتياض عنها بمصادر أخرى، فهذه معاص مكفرة تنقل عن الملة بنفسها ولا يشترط لها الاستحلال إلا على دين غالية جهمية العصر.

قال القاضي أبو يعلى: (من سب الله أو سب رسوله فإنه يكفر سواء استحل سبه أو لم يستحله. فإن قال: لم أستحل ذلك. لم يقبل منه في ظاهر الحكم رواية واحدة وكان مرتدا لأن الظاهر خلاف ما أخبر لأنه لا غرض له في سب الله وسب رسوله إلا لأنه غير معتقد لعبادته غير مصدق بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ويفارق الشارب والقاتل والسارق إذا قال: أنا غير مستحل لذلك. أنه يصدق في الحكم لأن له غرضا في فعل هذه الأشياء مع اعتقاد تحريمها وهو ما يتعجل من اللذة)7(7) الصارم المسلول على شاتم الرسول (ص: 513-514)..

ففي المعاصي المكفرة مثل لعن الأنبياء وقتلهم وإبطال شرائعهم وادعاء النبوة لا يشترط شرط الاستحلال والجحود بل هي مكفرة بنفسها فمن قارفها فقد كفر استحل الحرام أم لم يستحله، جحد الواجب أم لم يجحده، وحتى المخالفون لأهل السنة في باب الإيمان كمرجئة الفقهاء والأشاعرة يكفرون بها، والفرق بينهم وبين أهل السنة، أن أهل السنة يجعلونها كفرا بنفسها، أما الأشاعرة فيجعلونها علامة على الاستحلال والجحود، لذلك ترى في كتب الأشاعرة ككتاب الشفا للقاضي عياض التكفير بالأقوال والأعمال من غير اعتبار لشرط الجحود والاستحلال.

ولا يعلم اشتراط الاستحلال في أعمال الكفر إلا عن غالية الجهمية لأن غيرهم إما يجعلها كفرا بنفسها وهو الذي عليه السلف والأئمة وهو الذي لم تدل نصوص الكتاب والسنة إلا عليه، وإما يجعلها دلالة أو علامة على كفر الباطن لا شرطا له وهو القول المشهور عند الأشاعرة، ومن أطلق من العلماء أن التكفير يكون بالجحود فمراده أن ذلك سار في الأعمال المفسقة.

فالغالية من المعاصرين هم الذين يصرحون بأن الساب وعابد الأوثان ومبطل الشرائع والمستهزئ بالله ورسوله ودينه ونحوهم لا يكفرون إلا إذا استحلوا ذلك وصرحوا باستحلالهم.

التفریق بین نوعَيْ المعصیة المفسقة

إلى هنا لا إشكال في القضية وإنما يقع الإشكال عند التفريق من أفراد المعصية المفسقة فكثير من الناس يراها على وزان واحد وينسب ذلك إلى منهج السلف وهذا خطأ عليهم لأن الأصول تقضي بلزوم تقسيم المعصية المفسقة إلى معصية شهوة ومعصية شبهة. أي معصية مجردة ومعصية فيها من التوابع والضمائم ما يخرجها عن ظاهر المعاصي ويدرجها في المكفرات.

حقیقة معصیة الشھوة

فمعصية الشهوة صاحبها يحب من وجه ويبغض من وجه، ويوالى من وجه ويعادى من وجه، فيجتمع فيه الحب والبغض والولاء والبراء. فيوالى على ما فيه من محبة الإسلام والخير والطاعات التي يفعل منها ما يفعل، ويعادى ويبغض من وجه آخر لما ركبه من المعصية. وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة وكان عبد الله -وكان يلقب حمارا- يشربها وقد لعنه بعضهم أثناء إقامة حد الشرب عليه فقال الرسول صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: «لا تلعنوه، فوالله ما علمت إنه يحب الله ورسوله»8(8) رواه البخاري (6780)... فأثبت له محبته لله ولرسوله مع شربه ولكن أقام حد الله عليه. فاجتمع فيه حب وبغض.

وهذا أصل عظيم عند أهل السنة والجماعة وهو اجتماع الحب والبغض في عبد واحد لذلك يرجم الزاني المحصن وهذا نوع من البغض ولكن يصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين وهذا نوع من الحب والموالاة. وهكذا فقل في جميع المعاصي التي على هذه الشاكلة.

حقیقة معصیة الشبھة

أما معصية الشبهة ففيها رد الأحكام وإباء قبول الفرائض والطعن في حكمة التشريع ومعاندة الشارع وتحديه والاستهتار بعظمته فإذا انضاف إليها وقوعها في سياق يخدم مؤامرات الأعداء على الأمة الإسلامية لصدها عن الاعتصام بالدين الحق كانت ناقلة عن الملة بيقين لأن كل هذه المناطات داخلة في جملة الاستحلال والصد عن سبيل الله تعالى.

وهذا هو الفرق بين الانحرافين فقد تكون المعصية واحدة يفعلها جماعة على وجه الشهوة فلا يكفرون بذلك، ويفعلها غيرهم على وجه معاندة الشارع وإهانة الشريعة وتحدي المسلمين فيكفرون. ومن لم يلحظ هذا الفرق رأى أن في القضية جمعا بين المختلفين وتفريقا بين المتماثلين، وليس الأمر كذلك.

غلط أھل البدعة في ھذا الباب بسبب سوء فھم مصطلح الاستحلال

وإنما يغلط الناس في هذا الموطن بسبب القصور بمصطلح الاستحلال عن معناه الشرعي، وحصره في مجرد اعتقاد الحرام حلالا، وهذا خلل عظيم وانحراف كبير وكان هو سبب انحراف غالية جهمية العصر. فأخطؤوا في معناه، كما أخطؤوا في مناط تنزيله، فعلقوا الإكفار بأعمال الردة الصريحة على الاستحلال، فضلوا ضلالا بعيدا وأحدثوا في الدين حدثا لم يعرفه جهم ولا الصالحي ولا التومني.

معاني وأوجه الاستحلال

إن معنى الاستحلال أوسع مما فهمته مرجئة العصر فكما يدخل في عمومه اعتقاد أن الله أحل الحرام وعدم اعتقاد أن الله حرم المحرم يدخل فيه من باب الأولى الامتناع عن التزام التحريم مع الإقرار بأنه حرام؛ وأعظم منه وأشد معاندة المشرع في تحريمه وتحديه ومشاقته، فإن اعتقاد التحريم والتزامه وقبوله والانقياد له شرط لا بد منه، وهذا هو أصل الإيمان وحده الأدنى تصديق الأخبار وقبول الأحكام فهذا إن تحقق كانت المخالفة في الأعمال المفسقة فسوق لا ينقل عن الملة، أما إذا وقعت المخالفة عن إحدى المقدمتين فإن أصل الإيمان ينقض فمن لم يصدق الأخبار ولم يلتزم أخذها عن الله ورسوله واعتاض عن هذا المصدر بمصدر آخر كالمعقول والذوق فإن أصل الإيمان عنده لم يتحقق وإن تحقق قبل ذلك، فإنه ينقض بترك الالتزام. كذلك الشأن في قبول الأحكام فإن من ترك التزامها والتزم بمصدر آخر لم يحقق الحد الأدنى للإيمان الذي تحصل به النجاة.

فترك القبول وترك الالتزام ومعاندة المحرم هو أعظم وجوه الاستحلال. وحتى ولو لم نعتبره استحلالا فهو أغلظ من الاستحلال. ومن هنا قضى الشرع الذي كله عدل وحكمة التفريق بين من عصى شهوة ومن عصى تحديا وشبهة.

الفرق بین معصیة آدم علیه السلام ومعصیة إبلیس

وتأمل الفرق بين معصية آدم عليه السلام ومعصية إبليس. فآدم عليه السلام التزم الأمر وقبله وانقاد له ولكن وقعت المخالفة في العمل بلا شبهة ولا إباء ولا رد ولا تحد ولا استكبار ولا عناد، بل شهوة عن ظن منه عليه السلام أنه لا يوجد من يحلف بالله كاذبا (وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ) [الأعراف: 21، 22] بخلاف معصية إبليس التي يظهر فيها جليا قصد رد الأمر وعدم التزامه وعدم قبوله مع الطعن في الحكمة والاستدراك على الشارع وتحديه ومشاقته وعناده، ولم يكن الفرق بين المعصيتين ناتجا من مجرد كون ترك الأمر أفحش من ارتكاب النهي بل قاعدة المسألة ما أسلفناه.

حقیقة معنى الاستحلال.

قال شيخ الإسلام: (إن العبد إذا فعل الذنب مع اعتقاد أن الله حرمه عليه واعتقاد انقياده لله فيما حرمه وأوجبه فهذا ليس بكافر. فأما إن اعتقد أن الله لم يحرمه أو أنه حرمه لكن امتنع من قبول هذا التحريم وأبى أن يذعن لله وينقاد فهو إما جاحد أو معاند ولهذا قالوا: من عصى مستكبرا كإبليس كفر بالاتفاق ومن عصى مشتهيا لم يكفر عند أهل السنة والجماعة وإنما يكفره الخوارج … وبيان هذا أن من فعل المحارم مستحلا لها فهو كافر بالاتفاق … والاستحلال اعتقاد أن الله لم يحرمها وتارة بعدم اعتقاد أن الله حرمها … وتارة يعلم أن الله حرمها ويعلم أن الرسول إنما حرم ما حرمه الله ثم يمتنع عن التزام هذا التحريم ويعاند المحرم فهذا أشد كفرا ممن قبله)9(9) الصارم المسلول على شاتم الرسول (ص: 521)..

فركوب المعاصي الظاهرة والفواحش والاستعلان بذلك وتحدي المجتمع المسلم وشعائره ومقدساته ومعاندة الخالق سبحانه والاستهتار بعظمته ينافي الالتزام والقبول والانقياد، فإن الانقياد إجلال وإكرام، والاستعلان بالمعاصي على هذه الشاكلة إهانة وإذلال، وهما ضدان: وجود أحدهما يستلزم انتفاء الآخر لذلك كانت إهانة المقدسات والشعائر معاندة الخالق وإغاظة المسلمين تنافي الإيمان منافاة الضد للضد.

مجرد إظھار المعاصي لا ینقل عن الملة بمجرده

ولا نقصد هنا أن مجرد إظهار المعاصي ناقل عن الملة بمجرده، ولكن المقصود أن المجاهرة بالمعاصي عنادا للشارع واستهتارا بعظمته وإغاظة لأهل الإسلام إن لم يكن استحلالا فهي أفحش من الاستحلال لما فيه من التحدي والإهانة والإعراض.

إن أدنى درجات المجاهرة بالمعصية أن يعمل العبد المعصية في ستر الله ولكن إذا أصبح كشف ستر ربه وتحدث بها إما عن حسن نية وإما تفاخرا بها وعند البخاري من حديث أبي هريرة: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه»10(10) أخرجه البخاري (6069)، ومسلم (2990) باختلاف يسير..

فالمذكور في الحديث هو أدنى درجات المجاهرة وهو الدائر في نطاق كشف الستر والتكلم بها، ولكن بالتأمل في الحديث والنظر في الأصول لا يمكن إقحام الإعلان بالمعصية ومباشرتها أمام الناس ومقدساتهم مع قصد المعاندة والاستهتار بعظمة الخالق وإمعانا في التحلل والإباحية، في عموم هذا الحديث؛ فإن هذا لون آخر وقد عد النبي صلى الله عليه وسلم وقوعه من شر الخلق الذين تقوم عليهم الساعة. فعند مسلم من حديث النواس بن سمعان: «ويبقى شرار الناس، يتهارجون فيها تهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة»11(11) رواه مسلم. وفي حديث رواه الحاكم زيادة تفسير لحديث النواس «لا تقوم الساعة حتى لا يبقى على وجه الأرض أحد لله فيه حاجة، وحتى توجد المرأة نهارا جهارا تنكح وسط الطريق لا ينكر ذلك أحد، ولا يغيره، فيكون أمثلهم يومئذ الذي يقول: لو يخبئها عن الطريق قليلا»12(12) رواه الحاكم بإسناده ضعيف جدا..

قال النووي: ( يتهارجون تهارج الحمر أي يجامع الرجال النساء بحضرة الناس كما يفعل الحمير، ولا يكترثون لذلك)13(13) النووي في شرحه على مسلم..

الهوامش

(1) منھاج السنة النبویة (5 /84) .

(2) الشریعة للآجري ( 1/ 294).

(3) الاستقامة ( 2/ 181-182) بتصرف یسیر.

(4) انظر قریبا من ھذا المعنى الزواجر 1 / 147

(5) فتح الباري لابن حجر (12/ 273).

(6) مجموع الفتاوى.. (7/ 42)..

(7) الصارم المسلول على شاتم الرسول (ص: 513-514).

(8) رواه البخاري (6780)..

(9) الصارم المسلول على شاتم الرسول (ص: 521).

(10) أخرجه البخاري (6069)، ومسلم (2990) باختلاف يسير.

(11) رواه مسلم.

(12) رواه الحاكم بإسناده ضعيف جدا.

(13) النووي في شرحه على مسلم.

المصدر

دراسة بعنوان: “المعاصي بين الاستعلان والاستحلال”، للدكتور سليم سرار باختصار يسير.

اقرأ أيضا

عندما أشاعوا الفواحش فقد أضروك..!

وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ .. (5) نظرة الى الواقع

(وتأتون فِي ناديكمُ المنكَر..؟!) .. صيحة نذير

المراقص والملاهي .. وزحزحة الشريعة

حُماة الفضيلة .. وحِلف الرذيلة (3-3) الانتكاس وخطة المجرمين

 

التعليقات غير متاحة