انحسرت الانتخابات الأمريكية عن صورة لأمريكا من التناحر الداخلي، لكن لهم موقف موحد ضد الإسلام، وفي المقابل فعلى المسلمين واجب ومصابرة ورباط.

مقدمة

مرَّت الانتخابات الأمريكية بعموم دول العالم مرورا عاصفا مقلقا، وكانت أشد ما تكون وطأة على الدول الدائرة في الفلك الأمريكي وارتبطت على وجه الخصوص بالحزب الجمهوري والعهد الترامبي…

وكان من الملاحظ في تلك الانتخابات حصول “ترامب” رغم خسارته ـ على أكثر من (73) مليون صوتا من أصوات الشعب الأمريكي، وهي أعلى من أعلى نسبة حصل عليها رئيس أمريكي في تاريخ الولايات المتحدة ـ وهو الرئيس أوباما الذي حصل على أقل من (70) مليون صوتا ـ بينما حصل خصم الرئيس “ترامب”؛ “جو بایدن”، على أقل بقليل من (78) مليون صوتا من الأصوات المذكورة..

وفي نتائج مجلس الشيوخ حصل حزب “ترامب” على (50) مقعدا متفوقا على حزب “بایدن” بمقعدين، وفي نتائج مجلس النواب حصل حزب ترامب على (204) مقعدا بينما حصل حزب “بایدن” علی (219) مقعدا…

وهذه النتائج تدل على تنافس شديد، وانقسام كبير في المجتمع الأمريكي؛ وبالتالي في الساسة الأمريكان؛ لكنهم ـ ومع خلافهم هذا ـ متفقون تماما على عداوة الحق وأهله؛ يقول الله تعالى: ﴿بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ۚ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ﴾ [الحشر:14]؛ يقول قتادة في تفسير هذه الآية:

“تجد أهل الباطل مختلفة شهادتهم، مختلفة أهواؤهم، مختلفة أعمالهم، وهم مجتمعون في عداوة أهل الحق”. (1رواه الطبري (292 / 23) وغيره بسند صحيح)

التناحر قديم

وليست نتائج انتخاباتهم وحدها التي تظهر اختلاف الكفار الشديد فيما بينهم؛ فإن المتتبع لأخبارهم قديما وحديثا يعلم حقيقة شدة اختلاف هؤلاء الكفار فيما بينهم، وأقرب ما يحضرنا مما لا يجهله أحد:

ما حدث في الحرب العالمية الثانية قبل نحو (75) سنة حيث قتل فيها (50) مليون نسمة في مختلف أنحاء العالم..

وقبلها بنحو ثلاثة عقود قتل (10) ملايين نسمة في الحرب العالمية الأولى..

كما لا ننسى الإبادة الجماعية للشعب الياباني في الحرب العالمية الثانية بقصفهم بالقنابل الذرية..

والحروب الضخمة المطولة التي قامت فيما بين الأوربيين في أوروبا، وفيما بين الأوربيين أولئك الذين استوطنوا أمريكا..

والإبادة الجماعية التي قام بها الأمريكيون للفيتناميين..

وغير ذلك كثير..

كل هذه العداوات المتجذرة تتلاشى وتزول عند مواجهة المسلمين أصالة، وفي مواجهة كل من يفكر في المقاومة مهما كان توجهه..

وحدة كلمتهم ضد الإسلام

وقد رأينا هؤلاء الكفار المتنافرين يكوّنون التحالفات الضخمة لمواجهة أي تجمعات إسلامية لها أي نوع من أنواع القوة، أو التهديد لمصالحهم؛ كما رأيناهم في حروبهم المطولة على الخلافة الإسلامية، وحديثا في الصومال وأفغانستان والعراق وغيرها. وكان آخر تصريحات “بومبيو” وزير خارجية أمريكا في إدارة ترامب:

“أن أمريكا وأوروبا قلقون من تنامي القوة العسكرية التركية؛ فيجب عليهم العمل جميعا ضد أوردوغان”.

وقد كان جو بایدن ـ الرئيس المتوقع لأمريكا بعد ترامب ـ قال في حملته الانتخابية أن من أهدافه العمل على الإطاحة بأوردوغان، وبعد أن فاز بأغلبية أصوات الأمريكيين قال: إنه سيعمل مع المعارضة التركية للإطاحة بأوردوغان.. فهذا دیدنهم مع أي قوة تريد التحرر من هيمنة الغرب.

ولأجل الاحتفاظ بعلوّهم في الأرض فإن هؤلاء الكفار المتمكنين يضعون أنظمة لقيادة العالم بما يحفظ تفوقهم ومصالحهم؛ فبعد الحرب العالمية الأولى أنشأ المنتصرون من الكفار ما أسموه بـ “عصبة الأمم” عام (1920م) يفرضون من خلالها قوتهم على العالم…

ثم أنشأوا ما أطلقوا عليه “هيئة الأمم المتحدة” عام (1945م) بعد الحرب العالمية الثانية، ليقرروا ما يشاءون من قرارات باسم منظمة دولية ـ أي باسم العالم كله ـ واحتفظ الأقوياء المنتصرون لأنفسهم بما يسمى حق النقض “الفيتو” ليعترضوا على أي قرار يمكن أن يضر بمصالحهم أو بمصالح أتباعهم، وحتى لا تستخدم المنظمة الدولية التي صنعوها بأيديهم ضدهم..

وها هي أمريكا اليوم بعد أن أصبحت القوة العظمى في العالم تريد أن تزيح أي منافس لها، مهما كانت قوته؛ لتؤسس نظاما عالميا جديدا، ظهرت بوادره منذ زمن بعيد؛ فاستسلمت له كثير من الدول ـ بل عامتها ـ وللأسف كثير منها إسلامية؛ بل ودعمت بكل تفانٍ تفرد أمريكا بالقوة في العالم باسم محاربة الإرهاب تارة ـ وحقيقته محاربة الإسلام ـ وباسم حماية حقوق الإنسان تارة ـ وحقيقته حماية حقوق الإنسان الكافر ـ وباسم حماية الديمقراطية والشرعية الدولية والنظام العالمي ـ وحقيقته تقنين وحماية الفساد والظلم في الأرض..

وكما ذكرنا؛ فإن دولا كثيرة تنتسب للإسلام انضمت لأمريكا رغبة في الحصول على حمايتها والتربّح من وراء ذلك، حتى جاء العصر “الترامبي” الجامح؛ فأرهبهم ورغّبهم حتى تناسوا ما يتمنون من أرباح وبذلوا له كل ما يريد..

وها هو العصر “الترامبي” يوشك أن ينقضي؛ لكن أمريكا ما زالت ثابتة في سياساتها الاستراتيجية؛ بل إن قوتها الناعمة أشد من القوة الترامبية الجامحة الجانحة.

وها هي القيادات العربية الهزيلة العميلة تبحث عن مداخل وتنازلات ليرضى عنهم الرئيس الجديد “بایدن”، ويسمح لهم ـ بشروط جديدة ورهَق ـ بإتمام وظيفة العَمَالة والتبعية..

المسلمون أوْلى بوحدة الكلمة

وإذا كان هؤلاء الكفار يتّحدون لمواجهة المخاطر التي تواجههم فالمسلمون أولى بذلك؛ فدينهم الآمر بالتحاب والتواد والتآخي بين المسلمين وأن يوالي بعضهم بعضا ضد معسكر الكفر، وبذْل السلام لمن رغب من الكفار فيه ـ السلام العزيز وليس الذليل ـ يأمرهم أيضا بالأخذ بالعزم والقوة، ونبذ العجز ـ الذي فشا في الشعوب الإسلامية؛ قال الله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ [الأنفال:60].

والإرهاب لأعداء الله مطلوب شرعا ـ كما دلت عليه هذه الآية ـ ويخلط الأعداء ووسائل إعلامه بينه وبين الإجرام والاعتداء ـ المذموم شرعا ـ لأغراض معروفة. ومع الأسف يتبعهم بعض الطيبين في هذا الخلط، الإرهاب في الآية الكريمة أشبه بـ “الردع” بلغة العصر الحديث.

ولو كان المسلمون يملكون مثل هذا الردع ما تجرّأت فرنسا على التجني على رسولنا الكريم، صلی الله عليه وسلم..

ولما اعتدى اليهود ـ من قبل ـ على فلسطين والقدس وسفكوا الدماء وهدموا الديار ونهبوا أراضي وخيرات المسلمين، ولما غزت فرنسا الجزائر ومالي وشمال إفريقيا، ولما قصف واحتل الأمريكان العراق وأفغانستان وغيرهما، ولما انتهك الروس والروافض الشام..

وقائمة الانتهاكات والإيذاء طويلة لم تتوقف في هذا العصر.

وإعداد القوة والتخطيط السليم وعدم العجز مقاصد شرعية يتعين على المسلمين اكتسابها؛ عن أبي هريرة رضي الله عنها قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز …». (2رواه مسلم (2664))

قال النووي رحمه الله تعالى:

“قوله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير» والمراد بالقوة هنا عزيمة النفس والقريحة في أمور الآخرة؛ فيكون صاحب هذا الوصف أكثر إقداما على العدو في الجهاد، وأسرع خروجا إليه، وذهابا في طلبه، وأشد عزيمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى في كل ذلك، واحتمال المشاق في ذات الله تعالى.. وأرغب في الصلاة والصوم والأذكار وسائر العبادات، وأنشط طلبا لها ومحافظة عليها.. ونحو ذلك”. اهـ (3شرح مسلم (16/ 215))

ومن الردع ـ أيضا ـ الرعب الذي أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: «نُصرتُ بالرعب على العدو..». (4رواه البخاري (2977) ومسلم (523) – واللفظ له – من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا)

نعم؛ المسلمون الآن في مرحلة استضعاف؛ سبه الأول والأخير تخلفُهم عن دينهم، لكن كونهم لا يستطيعون ردع العدو واسترجاع الأراضي المغتصبة وفرض أحكام الإسلام عليها لا يعني أن يستمروا على هذا الوضع، بل عليهم الأخذ بأسباب القوة والنصر المذكورة في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ [الأنفال:45-47].

وهم متى ما صدقوا مع الله فإنهم موعودن بالنصر، وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تقاتلكم اليهود فتسلَطون عليهم حتى يقول الحجر يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله». (5رواه البخاري (3593) ومسلم (2921) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مرفوعا)

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبىء اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر یا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود». (6رواه مسلم (2922))

خاتمة

الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة كما أخبر النبي، صلى الله عليه وسلم؛ فيجب ألا يلتفت المسلمون إلى العملاء والمثبطين العاجزين الذين بلغ عجزهم إلى حد الذل والتسليم التام لأعداء الإسلام وقوة سیطرهم، وهذا الذل هو ما أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: «إذا تبایعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد في سبيل الله؛ سلَّط الله عليهم ذُلّا لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم». (7رواه أبو داود (3464) وغيره من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا، وصححه الألباني في الصحيحة (11))

ولنتأمل قوله صلى الله عليه وسلم: «حتى ترجعوا إلى دینکم».. كم فيه من الزجر عن ترك الجهاد؛ فقد جعله رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تركا للدين؛ يقول العلامة الصنعاني:

“وفي هذه العبارة زجر بالغ وتقريع شديد حتى جعل ذلك بمنزلة الردة”. (8سبل السلام (2/ 58))

أعز الله دينه ورد كيد أعدائه في نحورهم.

………………………

الهوامش:

  1. رواه الطبري ( 292 / 23) وغيره بسند صحيح.
  2. رواه مسلم (2664).
  3. شرح مسلم (16/ 215).
  4. رواه البخاري (2977) ومسلم (523) – واللفظ له – من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا.
  5. رواه البخاري (3593) ومسلم (2921) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مرفوعا.
  6. رواه مسلم (2922).
  7. رواه أبو داود (3464) وغيره من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا، وصححه الألباني في الصحيحة (11).
  8. سبل السلام (2/ 58).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة