ضرب الأنبياء أعظم الأمثلة في الرضا بحكم الله والتسليم له وحسن الظن به؛ في مواجهة الكفار، أو التضحية بالأبناء، أو الامتثال المطلق الرضي. وفيهم الأسوة.

مقدمة

لا يقوم الإيمان ولا يَسلم في قلب العبد إلا على قدم الرضا والتسليم للأمر الشرعي. وهذا لا يتم إلا بالثقة في الله وحسن الظن به والاطمئنان لأمره، واليقين أن الخير فيما أمر وإن بدا أول الأمر شديدا؛ ففيما يكره الإنسان ـ بطبعه ـ قد يكمن خير كثير. ولهذا كان الخير كله في الطاعة والامتثال لرب العالمين، واليقين والتسليم، والتوكل وحسن الظن. فيرى صاحب هذه العبوديات من الخير ما لم يكن في الحسبان، في الدارين. ولهذا ننظر في بعض الأمثلة التي ضربها الأنبياء الكرام في هذا.

أمثلة في حسن الظن بالله والرضى بحكمه

هذه الصفات يثمرها التوكل الصادق الذي ينبع من العلم بالله عز وجل ومعرفة أسمائه وصفاته وآثارها. ومن هذه الأمثلة:

الاستسلام في الذبيح اسماعيل

قوله تعالى عن خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام: ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ﴾ [الصافات: 101 – 106].

حقا إن هذا لهو البلاء المبين والامتحان العظيم للثقة بالله عز وجل والرضى بحكمه والاستسلام لأمره، وقد وصف الله سبحانه حالهما بقوله: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ أي أسلم الوالد والولد لأمر الله عز وجل وحكمه. الله أكبر، ما أعظم هذه النفوس وأنبلها وأطهرها وأعظم إيمانها وتوحيدها. فاللهم ألحقنا بهم، واحشرنا في زمرتهم يا أرحم الراحمين.

الاستسلام والرضا في شأن زوجه

ونموذج آخر بقصه الله سبحانه علينا عن توكل إبراهيم عليه السلام على ربه عز وجل والمسارعة في تنفيذ أمره والاستسلام لحكمه وذلك في ذهابه إلى مكة مع زوجه هاجر وابنهما إسماعيل عليهم جميعا الصلاة والسلام، ثم ترکه لهما هنالك حيث لا ماء ولا طعام ولا أنيس ولا جليس؛ قال الله عز وجل على لسان إبرهيم، عليه الصلاة والسلام، في دعائه لربه سبحانه بعد أن ترك إسماعيل وأمه في وادي مكة: ﴿رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ [إبراهيم: 37].

روى البخاري رحمه الله تعالى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أول ما اتخذ النساء المنطق من قِبَل أم إسماعيل؛ اتخذت منطقا لتعفي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء؛ فوضعهما هنالك ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء.

ثم قفَّى إبراهيم منطلقا فتبعته أم إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس به أنيس ولا شيء..؟ فقالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله أمرك بهذا..؟ قال: نعم. قالت: إذن لا يضيعنا. ثم رجعت.

فانطلق إبراهيم، حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه فقال: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾.. الحديث (1البخاري في أحاديث الأنبياء (3364))

التوكل والثبات عند مواجهة الكفار

ونموذج آخر من التوكل العظيم والثبات العظيم لإبراهيم عليه الصلاة والسلام فيما نصه الله عز وجل علينا عن إلقائه في النار. قال تعالى: ﴿قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ﴾ [الأنبياء: 68 – 70]

روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «”حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ” قالها إبراهيم حين ألقي في النار. وقالها محمد حين قيل له ﴿…إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ [آل عمران : 173]». (2البخاري في التفسير (4563))

توكل يعقوب ورضاه في شأن يوسف

ما قصه الله عز جل في سورة يوسف عن يعقوب عليه الصلاة والسلام وحسن ظنه بالله عز وجل والرضا بحكمه، النابع من صدق توكله وثقته بربه سبحانه.

قال تعالى في وصف رجائه وحسن ظنه بربه سبحانه بعدما فقد ابنه الثاني وقبله كان قد فقد يوسف عليه السلام: ﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ* يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يوسف: 83 – 87].

وإن هذا الرجاء العظيم من يعقوب عليه الصلاة والسلام في ربه عز وجل وحسن ظنه به واستسلامه لحكمه ليظهر من قوله: ﴿عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾، وقد توسل عليه الصلاة والسلام إلى ربه باسمه العليم والحكيم؛ وذلك لعلم يعقوب عليه الصلاة والسلام بربه وعلمه بأسمائه وصفاته ودلالاتها وآثارها؛ فكأنه يقول: “إنه هو العليم بحالي في الحزن والأسف، الحكيم الذي لم يبتلِني بذلك إلا لحكمة ومصلحة”.

وكذلك يتضح هذا الرجاء في الله عز وجل وعدم اليأس من رحمته من قوله: ﴿يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾.

يقول سيد قطب رحمه الله تعالى:

“هذا الشعاع من أين جاء إلى قلب هذا الرجل الشيخ..؟ إنه الرجاء في الله، والاتصال الواثق به، والشعور بوجوده ورحمته..

ذلك الشعور الذي يتجلى في قلوب الصفوة المختارة فيصبح عندها أصدق وأعمق من الواقع المحسوس الذي تلمسه الأيدي وتراه الأبصار؛ فيا للقلب الموصول..!!!.

﴿بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ﴾ تحسسوا بحواسكم في لطف وبصر، وصبر على البحث. ودون یأس من الله وفرَجه ورحمته. وكلمة “رَوْح” أدق دلالة وأكثر شفافية؛ ففيها ظل الاسترواح من الكرب الخانق بما ينسم على الأرواح من روح الله الندي: ﴿إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾.

فأما المؤمنون الموصولة قلوبهم بالله، الندية أرواحهم بروحه، الشاعرون بنفحاته المحيية الرخية فإنهم لا ييأسون من روح الله ولو أحاط بهم الكرب واشتد بهم الضيق. وإن المؤمن لفي روح من ظلال إيمانه، وفي أُنْس من صلته بربه، وفي طمأنينة من ثقته بمولاه، وهو في مضايق الشدة ومخانق الكروب…”. (3في ظلال القرآن ( 4/ 2026))

وهذه المواقف العظيمة من صدق التوكل والرجاء وحسن الظن بالله عز وجل يفسرها قوله تعالى على لسان يعقوب عليه السلام: ﴿وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ أي أعلم من رحمته وإحسانه وآثار أسمائه وصفاته ما لا تعلمون.

يتحدث سيد قطب رحمه الله تعالی عند قوله سبحانه على لسان يعقوب عليه الصلاة والسلام: ﴿وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ فيقول:

“وهذه قيمة الإيمان بالله، ومعرفته سبحانه هذا اللون من المعرفة. معرفة التجلي والشهود، وملابسة قدرته وقدره، وملامسة رحمته ورعايته، وإدراك شأن الألوهية مع العبيد الصالحين.

إن هذه الكلمات: ﴿وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ تجلو هذه الحقيقة بما لا تملك كلماتنا نحن أن تجلوها. وتعرض مذاقا يعرفه من ذاق مثله فيدرك ماذا تعني هذه الكلمات في نفس العبد الصالح يعقوب”. (4نفس المصدر السابق)

وتبقى وقفة مهمة في هذه الحياة الإيمانية ليعقوب عليه الصلاة والسلام. ألا وهي عند قوله تعالى: ﴿وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ﴾. فقد يقول قائل: ألا يتنافى الحزن والغم مع الرضى بقدر الله والاستسلام لحكمه..؟ ويجيب “العدوي” على هذا السؤال فيقول:

“ولا ضير في أن يتألم نبي الله يعقوب لهذه الشدائد، ويحزن الحزن العميق لتلك الأحداث؛ لأن هذا طبع الإنسان واستعداده، ويمتاز الصالحون بأنهم لا يُغضبون ربهم في حزنهم، ولا يَخرجون به إلى ما لا يَحسُن؛ ولقد بکی رسول الله صلى الله عليه وسلم على ولده إبراهيم، وقال “إن القلب يحزن، والعين تدمع، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبرهيم لمحزونون”.. والأنبياء بشر يجري عليهم ما يجري على سائر الناس من الحزن والفرح، والتألم للمصائب والاستبشار بالنعم”. (5دعوة الرسل (ص197))

وقد ختم الله عز وجل قصة يوسف بهذا الخطاب الخاشع الواثق بالله من يوسف عليه الصلاة والسلام، ذلك الخطاب الذي كله رقة وخضوع وتبرؤ من الحول والقوة وإرجاع الأمر إلى لطف الله وتثبيته في جميع مراحل الابتلاءات التي مر بها. قال الله عز وجل: ﴿..وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ۖ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [يوسف: 100].

خاتمة

وبالتأمل فيما قاله يوسف عليه الصلاة والسلام يظهر هذا الأدب العظيم منه عليه السلام مع ربه سبحانه، ورد الفضل والإحسان إليه عز وجل في جميع ما مر به في ابتلاءاته المختلفة، كما يلاحَظ في هذا الدعاء أن يوسف عليه السلام ختمه بثلاث أسماء كريمة من أسماء الله عز وجل هي : اللطيف والحكيم والعليم، وهذا من فقه يوسف عليه الصلاة والسلام ومعرفته بربه سبحانه وأسمائه وصفاته العلا وآثارها؛ فلقد ربط ما أصابه . في حياته وإخراجه من السجن ومجيء أهله إليه بلطف الله عز وجل وحكمته وعلمه. وهذا من حسن ظنه بربه، والاستسلام لحكمه وتفويض الأمور إليه.

وحاجتنا قائمة الى استلهام هذه المعاني ومعايشتها واستحضارها دوما والتأثر بها والرؤية من خلالها؛ فنرى كما رأوا، ونتذوق الأمر كما تذوقوه، ونسلك الطريق نفسه، مع خير خلق الله وسادة الأولياء.

………………………….

الهوامش:

  1. البخاري في أحاديث الأنبياء (3364).
  2. البخاري في التفسير (4563).
  3. في ظلال القرآن ( 4/ 2026).
  4. نفس المصدر السابق.
  5. دعوة الرسل (ص197).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة