تذكيرا للأمة بحال الجهاد لأهل غزة، لئلا يتركوا هذا الطريق ولئلا ينحرفوا عن مسار الجهاد، ولئلا يستجيبوا لمسارات الخضوع للهيمنة الصليبية والصهيونية الدولية.. 

على هذا فكونوا دوما، وبهذا تذْكركم الأمة.

مذاق أرض الرباط

هواؤها ليس كالهواء؛ ففي نسائمه بقية دخان من صواريخ عاجزة..

وترابها ليس كالتراب؛ ففي طياته أنفاق عزٍّ تتلوى كالثعابين المرعبة..

وعبق بحرها ليس كبقية البحار؛ ففي أمواجه وملحه ما خلّفه الفاتحون الأفذاذ..

وحدودها ليست كبقية الحدود.. حدود الدول العربية والإسلامية. ففي أسلاكها الشائكة غُصة بقيت في حلق شارون وحلوق بقية القرود والخنازير..

أما أُناس غزة

فهم من باب أَوْلى ليسوا كبقية الناس؛ فهم يقينا قد جاءوا من كوكب آخر وتاريخٍ غير تاريخنا المعاصر..

فهم لم يسلّموا بخداع «مكماهون» كما سلم العرب المحدثون، ولم يستسلموا لـ «كامب ديفيد» ولا لـ «واي ريفر» ولا «أوسلو» ولا غيرها من مفردات الأعجمية الذليلة.

هناك في غزة

رأيت كيف ألقى اللهُ عز وجل على قلوب أهلها الطمأنينة والسكينة حتى رضوا بل عزموا على قتال جيش قالت عنه النظم السياسية في العالم العربي والإسلامي: الجيش الذي لا قِبَل لنا به.. فرددوا بذلك مقولة بني إسرائيل: ﴿…إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ…﴾ (المائدة: 22).

هناك رأيت أطفالا ونساء ورجالا وشيوخا لم ترهبهم آلة الجبارين اليهود والنصارى.. هناك سمعت عيون أهل غزة تقول لي: ﴿…هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ..﴾ (الأحزاب: 22).

هناك رأيت الأصابع المقطوعة والأيدي المبتورة والأرجل المهشمة، وهناك قال لي أُصبع أحدهم: «ما أنت إلا إصبع دميت .. وفي سبيل الله ما لقيت».

شيخ بهمة شاب، وشاب بحكمة شيخ

هناك لم أستطع أن أفرق بين همة الشباب والشيوخ فالجميع شباب في همتهم، والجميع شيوخ في حكمتهم وصبرهم.. وهناك لم أستطع أن أفرق بين المتسابقين إلى طلب الشهادة فقد أصبحَت مطلبا جماهيريا.. لم يشغلهم عنه طلب الخبز واللحم ولا طلب الوظيفة والمعاش.

هناك تعلمت من أهل غزة أن أتلذذ بطين الأنفاق، وقطوف العنب، وغبار مطار غزة و«أسفلته» المنسوف بطائرات يهود، ورأيت أهل غزة يجمعون من تحته الحصى بأصابعهم وأظافرهم ويحتضنونه في صدورهم وقد اختلطت أصواتهم بالمساحي والعربات تجرها الخيول والحمير.. فيا أمة المليارين هلّا وقفتِ على هذا المشهد؟

ومشهد آخر شبيه لكن عماله من الفتيات والفتيان الذين لا تتجاوز أعمارهم العشر سنين؛ رأيتهم قريبا من شاطئ غزة يجمعون الحصى من موقع مدمَّر حتى يبيعوه فيشتروا لأهلهم شيئا من متطلبات شهر الصيام.. فقلت متى يتوقف قلق المسلمين على الطعام والشراب والخِرَق البالية؟

هناك رأيت تحفا وذكرى من نوع خاص فلا تكاد تدخل بيتا من بيوت أهل غزة إلا وتجدهم قد احتفظوا بقطعة من صاروخ أو شظية من متفجرة.. فأقول في نفسي: سبحان من ثبّتكم عند تفجرها وهي تزلزل أرضكم لكنها لم تزلزل عزمكم على قتال يهود واسترجاع المسجد الأقصى من بين أيديهم..

وعندها استرجعت قوله عز وجل: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ ۚ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا﴾ (الإسراء: 5)، فيا أصحاب البأس الشديد؛ طوبى لكم أن اصطفاكم رب العالمين فأنتم بذلك تستحقون أن تكونوا في مقدمة الأمة بل تاج رأسها.

هناك وفي غزة

وبقرب السلك الشائك.. حيث يكمن يهود وهم مدججون بآخر ما أنتجه الأمريكان ـ أصدقاء العرب وحلفاؤهم ـ رأيت أهل غزة يسرحون ويضحكون فإذا بالمحاصِرِ (بكسر الصاد) ينقلب مُحاصَرا (بفتحها) !

وإذا بعيون أهل غزة تتجاوز الأسلاك والفيافي لتطل على المسجد الأقصى مصبّرة.. صبرا يا أقصى إنا قادمون..

وكلما سقط بالقرب من السلك الشائك شهيد سارع أهل غزة برفعه على الأكتاف وهم يهتفون: لا إله إلا الله والشهيد حبيب الله.. فما أجمل أحبتكم يا أهل غزة وما أجملكم وأنتم تزفون الشهيد إثر الشهيد.

هناك تعلمت التواضع من هامات القادة الكبار وتذوقت جمال ابتسامة المجاهدين وتأدبت أمام السكينة التي تجللهم، وهناك ارتفعْتُ لَمّا قبلتُ هامات العز وأكف المرابطين، وهناك جلسْتُ جلسة المتعلم أمام المخططين الاستراتيجيين وهم يديرون شؤون غزة المحاصرة.

هناك زرت المساجد المدمرة بآلة حرب يهود حتى بلغ عدد المساجد المدمرة تدميرا كليا (45) مسجدا وعدد المساجد المدمرة تدميرا جزئيا (55) مسجدا..

هناك رأيت عزائم أهل غزة وقد بدأوا في ترميم مساجدهم وقد نصبوا بجانب بعضها وفي أماكن بعضها خياما بلاستيكية لا تقي حرا ولا بردا لكنها تؤوي المصابرين ومنها يرتفع دعاءهم للسماء فلا يدعون إلا بالنصر والشهادة.

في غزة يربُض (خمسون ألف) حافظ لكتاب الله الكريم يسميهم أهل غزة بـ (جيش القدس)، وصدقوا في تسميتهم ووصفهم؛ فهل سيحررها خريجوا الجامعات الأمريكية الناعمون المُمَيعون؟

ومن عجب أن يحفظ شباب وشابات غزة كتاب الله كاملا في شهرين فقط؛ فلا غرو أن يصمد أهل غزة ذلك الصمود وهم يتلون قول الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (الأنفال :45).

هناك رأيت المعابر، وما أدراك ما المعابر؛ حيث إحكام الحصار والذلة والمهانة، وحيث حشد يهود قوات السلطة الفلسطينية على معبر «كرم أبو سالم» تمهيدا لدخول غزة بعد سقوطها كما تخيلوا في حرب الشهر الواحد..

كل فلسطين وشبه جزيرة سيناء لم تكلف يهود إلا أياما معدودات لكي تسقط صيدا سهلا في أيديهم وذلك عام (1967م) في عز المشروع القومي العلماني.. وها هي غزة ترفع هامتها ولم تنحنِ لشهر كامل من محاولة الإبادة الشاملة وذلك لَمّا ترسخت نواة المشروع الإسلامي فيها.

هناك في غزة

تعلمت كيف تحافظ الأمة على ثوابتها فلا تقبل بإملاءات وشروط الأمم التي اتحدت على المسلمين..

وهناك تعرفت ميدانيا كيف أسقط الملتزمون مشروع العلمانية المنجرف وراء سراب الأمريكان والنظم السياسية المهترئة الساقطة في حب الدنيا واللهاث وراءها.

المشروع الإسلامي

هناك في غزة تساءلت..

أين المسلمون وأين حبهم للمسجد الأقصى ولفلسطين؟ أهي أضغاث أحلام؟ أم هو كما قالت بنو إسرائيل لنبيهم عليه السلام: ﴿فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ (المائدة:24)..

هل يمكن الفصل بين ما يحدث في فلسطين وما يحدث في مصر أو في الشام أو في باكستان أو في الجزائر أو في اليمن؟ أوَ ليس الكتاب واحدا؟ أوَ ليس النبي واحدا؟ أو ليس التاريخ واحدا؟ أو ليس العدو واحدا؟ ﴿وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ (البقرة:125).

فأين علامات المشروع الإسلامي على الأرض وأين علامات النصرة للمقدسات؟ هل رضي الدعاة من الغنيمة بالإياب؟ هل تركوا مشروعهم للأمم المتحدة أو لصراع إيران وأمريكا؟ هل قزّموا رؤيتهم في الديموقراطية التي تشبه حبلا ممدودا ينبغي السير عليه وطرفه بيد أمريكا والطرف الآخر بيد النظم السياسية؟ أين مسار الأمة المستقل وأين قرارها التاريخي؟

لا عجب يا أهل غزة أن تعاديكم الدنيا، ولا عجب أن توصد في وجوهكم الأبواب والمعابر..

ولكن صبرا وثباتا يوشك أن ينقلكم نقلة أخرى في عيون الشمس.. فقلوب الأمة معلقة بأصابعكم وهي على الزناد، وآمال الأمة تطير في سمائكم وهي متمسكة بأهداب الكتاب، والمسجد الأقصى يرنو إليكم وأنتم تتوثبون لنصرته..

بل وحتى غير المسلمين أصبحتم لهم أملا وقدوة في الوقوف بوجه الظالمين العتاة حتى غدوتم دعوة للإسلام في أقصى الأرض فطوبى ما نلتم من السؤدد وما تبوأتم من العز والشرف.(1)

……………………

هوامش:

  1. اختار الموقع هذا المقال تذكيرا بحال الجهاد لأهل غزة، لئلا يتركوا هذا الطريق ولئلا ينحرفوا عن مسار الجهاد، ولئلا يستجيبوا لمسارات الخضوع للهيمنة الصليبية والصهيونية الدولية. على هذا فكونوا دوما.. وبهذا تذْكركم الأمة.

اقرأ أيضا:

  1. من نحن؟ وما لنا وللأقصى والقدس؟
  2. مفتاح القدس هو نفس مفتاح المنطقة
  3. حكم الصلح والتطبيع مع الكيان الصهيوني. الشيح حسن مأمون

التعليقات غير متاحة