إذا حلت التقوى في قلوبنا، اطمأن القلب، وانشرح الصدر، وقد تضعف التقوى في القلوب، وقد تقوى حتى تكون كالجبال الشمِّ الراسيات، ويكون ضوؤها كالشمس، وأعظم التقوى أن نتقي الله عز وجل حقَّ تقاته (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، أي: اتقوه على نحو ما أمركم به ونهاكم عنه، والذين يتقون الله حقَّ تقاته قليل.

وسأورد أربعاً مما دلنا عليه الكتاب والسنّة لغرس التقوى في القلوب.

أولا: تعرف العبد إلى ربِّه

أنزل الله تبارك وتعالى هذا القرآن العظيم، فإذا فقهه الناس وعلموه، أنشأ التقوى في قلوبهم (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [الزمر: 17 – 18].

وقد جعل الله القرآن كتاب هداية (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) [البقرة: 2] ومع أن القرآن كتاب هداية للناس جميعاً، إلا أن الذين ينتفعون به هم المتقون دون سواهم. ولولا الكتب المنزلة لما عرف الناس كيف يتقون ربهم، قال تعالى بعد أن بيَّن الأحكام التي تتعلق بالصيام: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [البقرة: 187] فكيف يتقي الناس ما شرع لهم في الصيام، لولا هذا البيان الذي بيّنه الله، وقال تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَّا يَتَّقُونَ) [التوبة: 115] فالضلال لا يكون حتى يبين الله للعباد ما يتقونه، فإن، قبلوه، وأخذوا به كانوا من المتقين وإلا كانوا من الضالين، ولذلك لا تقوم الحجة على العباد إلا بإرسال الرسل، وإنزال الكتب لقوله تعالى: (رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةُ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء: 165] وقال تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) [الإسراء: 15].

وكتاب الله أعظم ما يدلُّ الناس على ربِّهم تبارك وتعالى، فإذا نظر العبد في كتاب الله عز وجل تجلى الله له بعظمته وجلاله وأسمائه وصفاته، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: “القرآن كلام الله، وقد تجلى الله فيه لعباده بصفاته، فتارة يتجلى في جلباب الهيبة والعظمة والجلال، فتخضع الأعناق، وتنكسر النفوس، وتخشع الأصوات، ويذوب الكبر، كما يذوب الملح في الماء، وتارة يتجلى في صفات الجمال والكمال، وهو كمال الأسماء وجمال الصفات وجمال الأفعال الدال على كمال الذات، فيستنفد حبه من قلب العبد قوة الحبِّ كلِّها، بحسب ما عرفه من صفات جماله ونعوت كماله، فيصبح فؤاد عبده فارغاً إلا من محبته، فإذا أراد منه الغير أن يعلق تلك المحبة به أبى قلبه وأحشاؤه ذلك كل الإباء، كما قيل:

يراد من القلب نسيانكم … وتأبى الطباع على الناقل

فتبقى المحبة طبعاً لا تكلفاً، وإذا تجلى بصفات الرحمة والبر واللطف والإحسان انبعثت قوة الرجاء من العبد، وانبسط أمله، وقوي طمعه، وسار إلى ربه، وحادي الرجاء يحدو ركاب سيره، وكلَّما قوي الرجاء جدَّ في العمل، كما أن الباذر كلما قوي طمعه في المغلّ غلَّق أرضه بالبذر، وإذا ضعف رجاؤه قصَّر في البذر.

وإذا تجلى بصفات العدل والانتقام والغضب والسخط والعقوبة، انقمعت النفس الأمارة، وبطلت، أو ضعفت قواها من الشهوة والغضب واللهو واللعب والحرص على المحرمات، وانقبضت أعنة1(1) الأعنة: جمع (عنان)، وهو الذي تمسك به الدابة. رعوناتها، فأحضرت المطية حظها من الخوف والخشية والحذر.

وإذا تجلى بصفات الأمر والنهي والعهد والوصية وإرسال الرسل وإنزال الكتب وشرع الشرائع، انبعثت منها قوة الامتثال والتنفيذ لأوامره والتبليغ لها والتواصي بها وذكرها وتذكرها والتصديق بالخبر والامتثال للطلب والاجتناب للنهي.

وإذا تجلى بصفات السمع والبصر والعلم، انبعثت من العبد قوة الحياء فيستحي من ربه أن يراه على ما يكره، أو يسمع منه ما يكره، أو يخفي في سريرته ما يمقته عليه، فتبقى حركاته وأقواله وخواطره موزونة بميزان الشرع غير مهملة ولا مرسلة تحت حكم الطبيعة والهوى.

وإذا تجلى بصفات الكفاية والحسب، والقيام بمصالح العباد، وسوق أرزاقهم إليهم، ودفع المصائب عنهم، ونرهن لأوليائه، وحمايته لهم، ومعيته الخاصة، انبعثت من العبد قوة التوكل عليه، والتفويض إليه، والرضا به وبكل ما يجريه على عبده، ويقيمه فيه مما يرضى به هو سبحانه، والتوكل معنى يلتئم من علم العبد بكفاية الله، وحسن اختياره لعبده، وثقته به، ورضاه بما يفعله به ويختاره له.

وإذا تجلى بصفات العز والكبرياء، أعطت نفسه المطمئنة ما وصلت إليه من الذل لعظمته، والانكسار لعزته، والخضوع لكبريائه، وخضوع القلب والجوارح له، فتعلوه السكينة والوقار في قلبه ولسانه وجوارحه وسمته، ويذهب طيشه وقوته وحدَّته.

وجماع ذلك: أنه سبحانه يتعرف إلى العبد بصفات إلهيته تارة، وبصفات ربوبيته تارة، فيوجب له شهود صفات الإلهية المحبة الخاصة، والشوق إلى لقائه، والأنس والفرح به، والسرور بخدمته، والمنافسة في قربه، والتودد إليه بطاعته، واللهج بذكره، والفرار من الخلق إليه، ويصير هو وحده همه دون ما سواه، ويوجب له شهود صفات الربوبية التوكل عليه والافتقار إليه، الاستعانة به، والذل والخضوع والانكسار له.

وكمال ذلك أن يشهد ربوبيته في إلهيته، وإلهيته في ربوبيته، وحمده في ملكه، وعزه في عفوه، وحكمته في قضائه وقدره، ونعمته في بلائه، وعطاءه في منعه، وبره ولطفه وإحسانه ورحمته في قيُّوميَّته، وعدله في انتقامه، وجوده وكرمه في مغفرته وستره وتجاوزه، ويشهد حكمته ونعمته في أمره ونهيه، وعزه في رضاه وغضبه، وحلمه في إمهاله، وكرمه في إقباله، وغناه في إعراضه.

وأنت إذا تدبرت القرآن وأجرته من التحريف، وأن تقضي عليه بآراء المتكلمين وأفكار المتكلفين، أشهدك ملكاً قيُّوماً فوق سماواته على عرشه، يدبر أمر عباده، يأمر وينهى، ويرسل الرسل، وينزل الكتب، ويرضى ويغضب، ويثيب ويعاقب، ويعطي ويمنع، ويعزُّ ويذلُّ، ويخفض ويرفع، يرى من فوق سبع ويسمع، ويعلم السر والعلانية، فعال لما يريد، موصوف بكلِّ كمال، منزَّه عن كل عيب، لا تتحرك ذرة فما فوقها إلا بإذنه، ولا تسقط ورقة إلا بعلمه، ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، ليس لعباده من دونه ولي ولا شفيع”2(2) [الفوائد، لابن القيم: 80 – 82، دار الكتب العلمية]..

ثانيا: عبادة الله تبارك وتعالى بصدق

عبادة الله – تبارك وتعالى – وحده لا شريك له تغرس التقوى في قلب العبد، سواءً أكانت عباده مفروضة كالصلاة والصوم والزكاة والحج والدعاء والنذر ونحوها، أو مستحبة كالنوافل من العبادات، وقد دلّ على ذلك قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 21].

لقد نادى ربُّ العزةِّ الناس جميعاً آمراً إياهم بعبادته وحده لا شريك له، وهذا الإله الذي أمروا بعبادته هو المستحق للعبادة، لأنه هو الذي خلقنا وخلق آباءنا من قبلنا، ثم بيَّن سبحانه أن غاية العبادة التقوى (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 21]، فالعبادة تنشئ التقوى في القلوب.

الصلاة تنشأ التقوى في القلوب

وإذا أنت نظرت إلى الصلاة وما فيها من أعمال وأقوال، وجدتها تنشأ التقوى في القلوب، فأنت تتطهر أولاً، ثم تقف مستقبلاً القبلة، وبعد أن تكبر تدعو بواحد من أدعية الاستفتاح، الذي تمجد فيه ربك، وتثني عليه، ثم تقرأ الفاتحة، وهي أعظم سورة في كتاب الله، وهي ثناء وتمجيد وتعظيم لله، ثم تقرأ بما تيسر من القرآن، وفي الآيات التي تقرؤها ما فيها من معاني كريمة، تعرفك بالله وصفاته وأسمائه وحقوقه، ثم تكبر راكعاً، ثم تسبح ربك وتثني عليه.

ثم ترفع رأسك قائلاً: سمع الله لمن حمده، حامداً ربك: «ربنا لك الحمد، ملء السموات، وملء الأرض، وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، ولكنها لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدُّ».

ثم تخر مكبراً ساجداً مسبحاً لله تعالى، داعياً إياه بما علَّمك رسوله – صلى الله عليه وسلم – من أدعية، ثم ترفع مكبراً، فتجلس داعياً الله بين السجدتين، وفي التشهد تذكر التحيات التي تتقدم بها إلى رب العزة، وهي تحيات طيبات وتسلم على النبي، وتصلي عليه، ثم تدعو بما شئت، وتختم بالسلام عن اليمين والشمال، إن هذه الصلاة إن صليتها بتدبر وخشوع أنشأت التقوى في القلب، وغرستها فيه.

الصيام ينشأ التقوى في القلوب

ومن العبادات التي تنشئ التقوى في القلوب الصيام، قال تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 63] فالذي يمتنع عن الطعام والشراب والنكاح طيلة نهار رمضان في شهر رمضان لا يمنعه إلا أن الله شرع ذلك وفرضه، تنشأ التقوى في قلبه وتقوى.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: “أمر الله بالصيام لأجل التقوى، وقد قال – صلى الله عليه وسلم -: «من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة أن، يدع طعامه وشرابه» فإذا لم تحصّل التقوى لم يحصل له مقصود الصوم، فينقص من أجر الصوم بحسب ذلك”3(3) [مختصر الفتاوى المصرية: (289)]..

ومع أن العبادة تنشئ التقوى، فإن التقوى بدورها تدعو لعبادة الله، وقد صحَّ أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – قال لأبي ذرٍّ ناصحاً ومعلِّماً: «اتَّق الله تكن أعبد الناس»4(4) [حسَّنه الألباني في صحيح الترمذي: 1876، وأخرجه في الصحيحة: 930]..

ثالثا: التفكر في خلق الله تعالى

التفكر في خلق الله تعالى يغرس التقوى في القلوب، فالله تبارك وتعالى ملأ هذا الكون الذي نعيش فيه بالآيات الدالة عليه سبحانه، فقد جعل الله سبحانه الشمس ضياءً، والقمر نوراً، وقدَّره منازل، لنعلم عدد السنين والحساب، وخلق الله الليل والنهار، وجعلهما يتقارضان، فيطول هذا، وينقص هذا، ثم يقع العكس، وخلق في السماوات والأرض آيات كثيرة عظيمة، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ) [يونس: 5 – 6] والنصوص الآمرة بالتفكر في آيات الله في الكون كثيرة جداً، والتفكر فيها يدلنا على أن الله لم يخلق الكون عبثاً، فقد خلقه ليكون معبداً لبني آدم يعبدون الله فيه، وهو ليس النهاية، بل وراء هذه الحياة حياة أخرى، يبعث الله فيها العباد ويجازيهم بأعمالهم، قال تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ) [آل عمران: 190 – 194].

رابعا: التفقه في النصوص المتحدثة عن القبر وعذابه والآخرة وأهوالها

إذا أكثر العبد من تلاوة النصوص القرآنية وقراءة الأحاديث النبوية التي تتحدث عن الأهوال التي ستصيب الناس في القبر والموقف العظيم والنار، فإن قلبه يمتلئ بمخافة الله تعالى: (لَهُمْ مِّنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنْ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ) [الزمر: 16].

وإذا وفق العبد لمعرفة أهوال القبر وأهوال القيامة، ثم تصور أنه واقع في تلك الأهوال، فإن قلبه يرعوي.

ما يقع للعبد عند موته وبعد الموت

جمع شيخنا الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى روايات الحديث الذي يخبر الرسول – صلى الله عليه وسلم – فيه ما يقع للبعد عندما يأتيه الموت، وما يجري له بعد الموت، ومن تأمل في هذا الحديث بصدق، رزقه الله – إن شاء الله – التقوى، عن البراء بن عازب قال: خرجنا مع النبي – صلى الله عليه وسلم – في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولما يلحد، فجلس رسول الله – صلى الله عليه وسلم -[مستقبل القبلة]، وجلسنا حوله، وكأن، على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت في الأرض، [فجعل ينظر إلى السماء، وينظر إلى الأرض، وجعل يرفع بصره ويخفضه، ثلاثاً]، فقال: «استعيذوا بالله من عذاب القبر» مرتين، أو ثلاثاً، [ثم قال: «اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر»] [ثلاثاً]، ثم قال:

«إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء، بيض الوجه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة (وفي رواية: المطمئنة)، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، فيأخذها، (وفي رواية: حتى إذا خرجت روحه صلى عليه كل ملك بين السماء والأرض، وكل ملك في السماء، وفتحت له أبواب السماء، ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله أن يعرج بروحه من قبلهم)، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفن، وفي ذلك الحنوط، [فذلك قوله تعالى: (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) [الأنعام: 61]، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض».

قال: «فيصعدون بها فلا يمرون – يعني – بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان ابن فلان – بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له، فيفتح لهم، فيشيعه من كل سماء مقربوها، إلى السماء التي تليها، حتى ينتهي به إلى السماء السابعة، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، [(وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) [المطففين: 19 – 21] فيكتب كتابه في عليين، ثم يقال]: أعيدوه إلى الأرض، فإني [وعدتهم أني] منها خلقتهم، وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، قال: فـ[يرد إلى الأرض، و] تعاد روحه في جسده، [قال: فإنه يسمع خفق نعال أصحابه إذا ولوا عنه] [مدبرين].

فيأتيه ملكان [شديدا الانتهار] فـ[ينتهرانه، و] يجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فيقولان له: وما عملك؟ فيقول: قرأت كتاب الله، فآمنت به، وصدقت، [فينتهره فيقول: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ وهي آخر فتنة تعرض على المؤمن، فذلك حين يقول الله عز وجل: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [إبراهيم: 27]، فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد – صلى الله عليه وسلم -، فينادي منادٍ في السماء: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مدَّ بصره».

قال: «ويأتيه [وفي رواية: يمثل له] رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، [أبشر برضوان من الله، وجنات فيها نعيم مقيم]، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: [وأنت فبشرك الله بخير] من أنت، فوجهك الوجه يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح [فو الله ما علمتك إلا كنت سريعاً في إطاعة الله، بطيئاً في معصية الله، فجزالك الله خيراً]، ثم يفتح له باب من الجنة، وباب من النار، فيقال: هذا منزلك لو عصيت الله، أبدلك الله به هذا، فإذا رأى ما في الجنة قال: رب عجل قيام الساعة، كيما أرجع إلى أهلي ومالي، [فيقال له: اسكن]».

قال: «وإن العبد الكافر (وفي رواية: الفاجر) إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة [غلاظ شداد]، سود الوجوه، معهم المسوح [من النار]، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيئة اخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السَّفود [الكثير الشعب] من الصوف المبلول، [فتقطع معها العروق والعصب]، [فيلعنه كل ملك بين السماء والأرض، وكل ملك في السماء، وتغلق أبواب السماء، ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله ألا تعرج روحه من قبلهم]، فيأخذهما، فإذا أخذها، لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح جيفه وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون: فلان ابن فلان – بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهي به إلى السماء الدنيا، فيستفتح له، فلا يفتح له، ثم قرأ رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ) [الأعراف: 40] فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين، في الأرض السفلى، [ثم يقال: أعيدوا عبدي إلى الأرض فإني وعدتهم أني منها خلقتهم، وفيها أعيدها، ومنها أخرجهم تارة أخرى]، فتطرح روحه [من السماء] طرحاً [حتى تقع في جسده] ثم قرأ (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) [الحج:31]، فتعاد روحه في جسده، [قال: فإنه ليسمع خفق نعال أصحابه إذا ولوا عنه].

ويأتيه ملكان [شديدا الانتهار، فينتهر أنه، و] يجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ [فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ها هاه لا أدري]، فيقولان: فما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فلا يهتدي لاسمه، فيقال: محمد! فيقول: ها هاه لا أدري [سمعت الناس يقولون ذاك! قال: فيقال: لا دريت]، [ولا تلوت]، فينادي مناد من السماء أن كذب، فافرشوا له من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيَّق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه.

ويأتيه (وفي رواية: ويمثل له) رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقولك [وأنت فبشرك الله بالشر] من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالشر! فيقول: أنا عملك الخبيث، [فو الله ما علمت إلا كنت بطيئاً عن طاعة الله، سريعاً إلى معصية الله]، [فجزاك الله شراً، ثم يقيض له أعمى أصم أبكم في يده مرزبة! لو ضرب بها جبل كان تراباً، فيضربه ضربة حتى يصير بها تراباً، ثم يعيده الله كما كان، فيضربه ضربة أخرى، فيصبح صيحة يسمعه كل شيء إلا الثقلين، ثم يفتح له باب من النار، ويمهد من فرش النار]، فيقول: رب لا تقم الساعة»5(5) [قال شيخنا الألباني في تخريجه: أخرجه أبو داود (2/ 281) والحاكم (1/ 37 – 40) والطيالسي (رقم 753) وأحمد (4/ 287) و288 و295 و296) والسياق له والآجري في “الشريعة” (367 – 370). وروى النسائي (1/ 282) وابن ماجه (1/ 469) – 470) القسم الأول منه إلى قوله: “وكأن على رؤوسنا الطير”، وهو رواية لأبي داود (2/ 70) بأخصر منه وكذا أحمد (4/ 297) وقال الحاكم: “صحيح على شرط الشيخين”. وأقره الذهبي، وهو كما قالا، وصححه ابن القيم في “إعلام الموقعين” (1/ 214) و”تهذيب السنن” (4/ 337)، ونقل فيه تصحيحه عن أبي نعيم وغيره]..

خامسا: الإكثار من ذكر الله تعالى

الإكثار من ذكر الله تعالى يرقق القلوب، ويصفي الأرواح، ويغرس التقوى في قلوب العباد، قال ابن القيم: “إنَّ أكرم الخلق على الله تعالى من المتقين من لا يزال لسانه رطباً بذكر الله تعالى”6(6) [الوابل الصيب من الكلم الطيب، ص85]..

الهوامش

(1) الأعنة: جمع (عنان)، وهو الذي تمسك به الدابة.

(2) [الفوائد، لابن القيم: 80 – 82، دار الكتب العلمية].

(3) [مختصر الفتاوى المصرية: (289)].

(4) [حسَّنه الألباني في صحيح الترمذي: 1876، وأخرجه في الصحيحة: 930].

(5) [قال شيخنا الألباني في تخريجه: أخرجه أبو داود (2/ 281) والحاكم (1/ 37 – 40) والطيالسي (رقم 753) وأحمد (4/ 287) و288 و295 و296) والسياق له والآجري في “الشريعة” (367 – 370). وروى النسائي (1/ 282) وابن ماجه (1/ 469) – 470) القسم الأول منه إلى قوله: “وكأن على رؤوسنا الطير”، وهو رواية لأبي داود (2/ 70) بأخصر منه وكذا أحمد (4/ 297) وقال الحاكم: “صحيح على شرط الشيخين”. وأقره الذهبي، وهو كما قالا، وصححه ابن القيم في “إعلام الموقعين” (1/ 214) و”تهذيب السنن” (4/ 337)، ونقل فيه تصحيحه عن أبي نعيم وغيره].

(6) [الوابل الصيب من الكلم الطيب، ص85].

المصدر

كتاب: التقوى «تعريفها وفضلها ومحذوراتها وقصص من أحوالها»، عمر بن سليمان الأشقر، ص35-52.

اقرأ أيضا

الاستقامة مفهومها وأحوالها

منارات النجاة من الفتن .. بين التقوى والأناة

سير المتقين وأخبارهم

التعليقات غير متاحة