نحن لسنا أمة مقطوعة إن لنا تاريخاً نستلهم منه الدروس والعبر، وما أكثر تلك اللحظات الحرجة، وأوقات الفتن والمحن التي مرت بالأمة الإسلامية، فقط ما عليك إلا أن تقلب صفحات التاريخ لتقف على تلك اللحظات، ففي التاريخ عجائب الأمور، وفيه تقلبات الزمن، وتصاريف القدر، وفيه سنة الصراع بين الإيمان والجاهلية.

اقرأ التاريخ لتربط هذه الأحداث اليوم بتاريخنا العريق يوم أن يبين لنا الدروس والعبر، فيه ما يصيب الدعاة من المحن والبلاء، وعاقبة الصبر على الطريق.

صفحات ثلاث من تاريخنا

لحظات رهيبة وعصيبة من حياة المسلمين: تعال أيها المسلم! لأُقلب وإياك صفحات ثلاث فقط من تاريخنا، كانت هذه الصفحات لحظات رهيبة وحرجة عصيبة على المسلمين، فكيف تعامل معها المسلمون، وكيف نجَّى الله سبحانه وتعالى الصادقين، ولماذا ينتصر أعداء الدين على المسلمين، ويحصل لهم التمكين في بعض الأحايين؟.

الصفحة الأولى: لحظات حرجة في يوم الأحزاب

إنها تلك اللحظات الحرجة التي عاشها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في غزوة الأحزاب، ذلك الرعب الذي روّع أهل المدينة وأفزعهم، خلاصة حالة المسلمين في هذه اللحظات، أعددها لكم بالنقاط التالية:

أولاً: تجمع الأحزاب من كل مكان: قريش، غطفان، وبنو أسد، وبنو سليم، وبنو مرة، وقبيلة أشجع، وفزارة، ومن اليهود أيضاً بنو قريظة، وبنو النضير؛ تجمعت هذه الأعداد وضرب حصار محكم منها على المدينة، وهذا يذكرنا بتجمع أعداء الدين اليوم كلهم على هذا الدين وعلى الأمة الإسلامية.

ثانياً: غدر اليهود وخيانتهم ونقضهم للعهد في المدينة: وهذا هو ديدنهم الذي أخبر الله عز وجل عنهم في الكتاب، وستظل هذه الصفات إلى يوم القيامة لأنها إخبار من الله عز وجل في القرآن، وإخبار منه صلى الله عليه وآله وسلم في السنة.

ثالثاً: مكائد المنافقين وتسللهم لواذاً متعللين بالأكاذيب، وتثبيطهم للنفوس، وبثهم للرعب والفزع في القلوب المريضة فقط: وقد قال منافق منهم ويدعى معاتب بن قشير قال في هذه اللحظات: كان محمد يعدنا أن نأخذ كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط.

كلمات تثبيط وتخذيل، كما يفعله الكثير اليوم من المنافقين.

رابعاً: الجوع المقعد، وفقدان الزاد: حتى ربط النبي صلى الله عليه وسلم على بطنه حجراً من شدة الجوع، وكما جاء في حديث أنس رضي الله تعالى عنه عند البخاري قال: (يؤتون بملء كف من الشعير فيصنع لهم في الإهاله -والإهاله هي ودك يتحلب من دسم اللحم -وشحمه سنخة- أي: متغيرة فاسدة الطعم- توضع بين يدي القوم، والقوم جياع وهي بشعة في الحلق، ولها ريح منتنة، ثم قال في الحديث: وقد لبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقاً ولا نطعم شيئاً ولا نقدر عليه) .

خامساً: نقطة من وصف حال المسلمين في تلك اللحظات: حفر الخندق والأحوال الجوية: فالبرد شديد ونقلهم التراب على أكتافهم وظهورهم، كما في حديث البراء قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم ينقل التراب يوم الخندق حتى اغبرّ بطنه)، وفي لفظ: (حتى وارى عني التراب جلدة بطنه صلى الله عليه وسلم) .

سادساً: الخوف على النساء والعجزة والأطفال، وهم من وراء المجاهدين في آطام المدينة والسعي لحمايتهم بعد غدر اليهود من ورائهم.

سابعاً: قلة المسلمين وقلة السلاح والعتاد أمام تجمع الأحزاب، وقوتهم وكثرة عتادهم.

كل هذه الظروف تجمعت على المسلمين في تلك اللحظات، وفي تلك الساعات الحرجة العصيبة، وتعال واسمع لوصف الحق عز وجل اسمع لوصف الله سبحانه تعالى وهو يصف حال المؤمنين في هذه اللحظات الحرجة يقول سبحانه وتعالى: (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً) [الأحزاب:10-11] هذا وصف الله سبحانه وتعالى للموقف: (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً) [الأحزاب:10-11] ثم يقول سبحانه وتعالى: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا) [الأحزاب:12-13] انظر التثبيط والتخذيل، وقد يقع في ذلك كثير من ضعاف المسلمين اليوم: (وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً) [الأحزاب:13] إنها صورة الهول الذي روَّع المدينة، والكرب الذي شملها، والذي لم ينج منه أحد من أهلها، وقد أطبق عليها المشركون من قريش وغطفان واليهود من بني قريظة، من كل جانب من أعلاها ومن أسفلها.

عظم البلاء، وخوف الناس خوفاً شديداً

قال محمد بن مسلمة وغيره: (كان ليلنا ونهارنا بالخندق، وكان المشركون يتناوبون بينهم فيغدو أبو سفيان بن حرب في أصحابه يوماً، ويغدو خالد بن الوليد -يوم كان مشركاً- يوماً، ويغدو عمرو بن العاص -يوم كان مشركاً- يوماً، ويغدو هبيرة بن أبي وهب يوماً، ويغدو عكرمة بن أبي جهل يوماً، ويغدو ضرار بن الخطاب يوماً حتى عظم البلاء، وخاف الناس خوفاً شديداً) وتقول أم سلمة رضي الله عنها: (شهدت -أي مع النبي صلى الله عليه وسلم- معه مشاهد فيها قتال وخوف المريسيع وخيبر، وكنا بـ الحديبية وفي الفتح وحنين، لم يكن من ذلك أتعب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أخوف عندنا من الخندق، وذلك أن المسلمين كانوا في مثل الحرجة، وأن قريظة لا نأمنها على الذراري فـ المدينة تحرس حتى الصباح، نسمع فيها تكبير المسلمين، حتى يصبحوا خوفاً، حتى ردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيراً) .

كيف تعامل المسلمون مع هذه اللحظات الحرجة، ومع هذا الموقف؟ وكيف كان حالهم في وقت الفتن والشدة؟ ماذا فعلوا في هذه الساعات العصيبة؟

لم يترددوا لحظة في نصرة الله عز وجل ولا نصرة دينه، بل كانت هذه الشدائد والفتن والمحن مادة للطمأنينة والثقة والاستبشار واليقين.

صورة مشرقة مضيئة للمؤمنين الصادقين

لقد كانوا رضوان الله تعالى عليهم ناساً من البشر يفزعون، ويضعفون، ويضيقون بالشدة، لكنهم كانوا مرتبطين بالعروة الوثقى التي تشدهم إلى الله عز وجل وتمنعهم من السقوط، وتجدد فيهم الأمل وتحرسهم من اليأس والقنوط، ولذلك اسمع لموقفهم كما يصفه الله تعالى، اسمع لموقف المؤمنين الصادقين في الفتن ومواقف الشدة يوم أن تمسكوا بالعروة الوثقى، يوم أن تمسكوا بلا إله إلا الله فعرفوا أنه ما قادر على شيء في هذا الكون إلا الله، وبعد إذن الله سبحانه وتعالى، يقول سبحانه وتعالى: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً) [الأحزاب:22] الفتنة والشدة ليس فيها تراجع، بل هذه دلائل وهذه بشائر ومبشرات على أن هذه نصرة للإسلام، ولذلك (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ) [الأحزاب:22] لما رأوا الأحزاب تجمعت عليهم من كل ناحية وتكالبت عليهم الظروف التي ذكرناها قالوا: (هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً) [الأحزاب:22] .

الله أكبر! أعطيت مفاتيح الشام

هذه صورة الإيمان الواثق المطمئن، هذه صورة مشرقة مضيئة للمؤمنين الصادقين وهم في مواجهة المحن والشدائد، ولا عجب فهم تلامذة المدرسة المحمدية، ففي هذه اللحظات الحرجة وفي هذه الشدائد والمصائب التي تجمعت على المسلمين فإذا به صلى الله عليه وآله وسلم يبشرهم بسقوط حكم كسرى وقيصر، في هذه اللحظات العصيبة فإذا به صلى الله عليه وسلم يقول: عندما يضرب الحجر يقول: (الله أكبر! أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة -سبحان الله- ثم يضرب الثانية ويقول: الله أكبر! أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصور المدائن، ثم يضرب الثالثة فيقول: الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء بمكاني هذه الساعة) والحديث أخرجه أحمد والنسائي من حديث البراء بن عازب وإسناده حسن، وأصل الحديث عند البخاري في صحيحه في كتاب المغازي.

والأعجب من هذا أنه لما وصله صلى الله عليه وسلم غدر اليهود من بني قريظة ونقضهم للعهد، وهي مصيبة أخرى على تلك المصائب التي تجمعت عليه وعلى أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين، ومع ذلك كله اسمع لليقين قال صلى الله عليه وسلم: (الله أكبر! أبشروا بنصر الله وعونه، إني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق، وآخذ المفتاح، وليهلكن كسرى وقيصر ولتنفقن أموالهما في سبيل الله) هذا في اللحظات التي يأتيه الخبر أن اليهود قد غدروا.

قال صاحب الظلال رحمه الله: (وحين نرانا ضعفنا مرة أو زلزلنا مرة أو فزعنا مرة أو ضقنا مرة بالهول والخطر والشدة والضيق فعلينا ألا نيأس من أنفسنا، وألا نهلع ونحسب أننا هلكنا أو أننا لم نعد نصلح لشيء عظيم أبداً، ولكن علينا في الوقت ذاته أن لا نقف إلى جوار ضعفنا؛ لأنه من فطرتنا البشرية، ونصر عليه لأنه يقع لمن هم خير منا هنالك العروة الوثقى عروة السماء، وعلينا أن نستمسك بها لننهض من الكبوة، ونسترد الثقة والطمأنينة، ونتخذ من الزلزال بشيراً بالنصر، فنثبت ونستقر ونقوى ونطمئن ونسير في الطريق، وهذا هو التوازن الذي صاغ ذلك النموذج الفريد في صدر الإسلام).

الصفحة الثانية: الصليبيون وتسلطهم على المسلمين قبل معركة حطين

لما استولى الصليبيون على كثير من البلاد الإسلامية، والمسجد الأقصى ما يقارب قرناً من الزمن؛ حتى ظن الكثير من المسلمين وغيرهم أنه لا أمل في انتصار المسلمين على الصليبيين، وأنه لا رجاء في رد أرض فلسطين مع المسجد الأقصى إلى حوزة المسلمين، ولاسيما بعد أن فتكوا في الأنفس، وذبحوا من المسلمين في يوم واحد فقط أكثر من ستين ألفاً حتى إن الدماء سالت أنهاراً في شوارع القدس وقد بلغت حد الركب.

واسمع لابن كثير وهو يقول في البداية والنهاية: لما كان ضحى يوم الجمعة لسبع بقين من شعبان سنة ثنتين وتسعين وأربعمائة أخذت الفرنج -لعنهم الله- بيت المقدس -شرفه الله- وكانوا في نحو ألف ألف مقاتل، وقتلوا في وسطه أزيد من ستين ألفاً من المسلمين، وجاسوا خلال الديار، وتبروا ما علو تتبيراً.

قال ابن الجوزي: وأخذوا من حول الصخرة اثنين وأربعين قنديلاً من فضة زنة كل واحد منها ثلاثة آلاف وستمائة درهم، وأخذوا تنوراً من فضة زنة أربعون رطلاً بالشامي، وثلاثة وعشرين قنديلاً من ذهب، وذهب الناس على وجوههم هاربين من الشام إلى العراق مستغيثين على الفرنج إلى الخليفة، والسلطان منهم القاضي أبو سعد الهروي، فلما سمع الناس بـ بغداد هذا الأمر الفظيع هالهم ذلك، وتباكوا وقد نظم أبو سعد الهروي كلاماً قرئ في الديوان، وعلى المنابر فارتفع بكاء الناس، وندب الخليفة الفقهاء إلى الخروج إلى البلاد ليحرضوا الملوك على الجهاد، فخرج ابن عقيل وغير واحد من أعيان الفقهاء، فساروا في الناس فلم يفد ذلك شيئاً إذا ماتت قلوب الناس وأصابها الخوف والهلع والعياذ بالله ماتت، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

حتى إنَّ أرياط أمير الكرك، ولم يكن في الفرنج أشد منه عداوة للمسلمين سطا على قافلة ذاهبة من مصر إلى الشام فأخذ أموالهم وضرب رقابهم وهو يقول: أين محمدكم! دعوه ينصركم!! من كان يظن أن هذه البلاد ستحرر في يومٍ من الأيام على يد البطل صلاح الدين في معركة حطين الحاسمة، ويصبح للمسلمين من الكيان والقوة والعزة والسيادة ما شرف التاريخ.

قال ابن كثير في البداية والنهاية في الجزء الثاني عشر: فتواجه الفريقان، وتقابل الجيشان، وأسفر وجه الإيمان، واغبر وأقتم وجه الكفر والطغيان، ودارت دائرة السوء على عبدة الصلبان، وذلك عشية الجمعة، فبات الناس على مصافهم، وأصبح صباح يوم السبت الذي كان يوماً عسيراً على أهل الأحد، وذلك لخمس بقين من ربيع الآخر فطلعت الشمس على وجوه الفرنج، واشتد الحرب وقوي بهم العطش، وكان تحت أقدام خيولهم حشيشٌ قد صار هشيماً، وكان ذلك عليهم مشئوماً، فأمر السلطان النفاطة أن يرموه بالنفط فرموه فتأجّج -أي: ذلك الحشيش- ناراً تحت سنابك خيولهم، فاجتمع عليهم حر الشمس وحر العطش وحر النار وحر السلاح وحر رشق النبال، وتبارز الشجعان، ثم أمر السلطان بالتكبير والحملة الصادقة، فحملوا وكان النصر من الله عز وجل فمنحهم الله أكتافهم، فقتل منهم ثلاثون ألفاً في ذلك اليوم، وأسر ثلاثون ألفاً من شجعانهم وفرسانهم، وكان في جملة من أُسر جميع ملوكهم سوى قومس قرابلس فإنه انهزم في أول المعركة، واستلبهم السلطان صليبهم الأعظم، وهو الذي يزعم أنه صلب عليه المصلوب، وقد غلفوه بالذهب واللآلئ والجواهر النفيسة، ولم يسمع لمثل هذا اليوم في عز الإسلام وأهله ودمغ الباطل وأهله حتى ذكر أن بعض الفلاحين رآه بعضهم يقود نيفاً وثلاثين أسيراً من الفرنج، وقد ربطهم بطنب خيمة، وباع بعضهم أسيراً بنعل ليلبسها في رجله، وجرت أمور لم يسمع بمثلها إلا في زمن الصحابة والتابعين، فلله الحمد دائماً كثيراً طيباً مباركاً انتهى كلامه رحمه الله.

من كان يظن أنها ستحدث مثل هذه الأحداث، وستحرر هذه البلاد بعد هذه الأمور التي سمعتموها من تسلط الصليبيين ومن أذاهم للمسلمين.

الصفحة الثالثة: التتار والعالم الإسلامي

صفحة ثالثة وأخيرة من صفحات التاريخ التي تبرهن على أنه مهما كان حال المسلمين إلا أن العزة والتمكين سيكون نصر للمؤمنين.

وهذه الصفحة هي لما خرب المغول والتتار العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، ونهبوا الأموال، وداسوا القيم، وفتكوا في الأنفس والأعراض فتكاً ذريعاً حتى قيل: إن جبالاً شامخة وأهرامات عالية أقامها هولاكو من جماجم المسلمين.

واسمع لابن الأثير وهو يروي لنا الخطب والحدث في كتابه الكامل في الجزء التاسع يقول: ثم دخلت سنة سبع عشرة وستمائة، ذكر خروج التتر إلى بلاد الإسلام، لقد بقيت عدة سنين -هذا كلام ابن الأثير – معرضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها كارهاً لذكرها، فأنا أقدم إليه رجْلاً وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟! ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟! فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً، إلا أني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها، وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعاً، فنقول: هذا الفعل يتضمن الحادثة العظمى، والمصيبة الكبرى التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها، عمت الخلائق، وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم إلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقاً، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها.

إلى أن قال: وهؤلاء لم يبقوا على أحد، بل قتلوا النساء والرجال والأطفال وشقوا بطون الحوامل وقتلوا الأجنة -كأنه يسوق لنا ما يدور الآن في العالم الإسلامي- فإنا لله وإنا إليه راجعون! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! لهذه الحادثة التي استطار شرها، وعم ضررها، وسارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح، فإن قوماً خرجوا من أطراف الصين وقصدوا بلاد تركستان مثل كاشور وبلد سوغون، ثم منها إلى بلاد ما وراء النهر مثل سمرقند وبخارى وغيرهما، فيملكونها ويفعلون بأهلها ما نذكره، ثم تعبر طائفة منهم إلى خراسان فيفرغون منها ملكاً وتخريباً وقتلاً ونهباً، ثم يتجاوزونها إلى الري وهمذان وبلد الجبل، وما فيه من البلاد إلى حد العراق ثم بلاد أذربيجان وأرانية، ويخربونها ويقتلون أكثر أهلها، ولم ينج إلا الشريد النادر، كل هذا في أقل من سنة، هذا ما لم يسمع بمثله.

إلى أن قال أيضاً: ففعلوا فيها -أي في بلاد الهند وسجستان وكرمان وغيرها، ففعلوا فيها مثل ما فعل هؤلاء أو أشد ما لم يطرق الأسماع مثله، فإن الإسكندر الذي اتفق المؤرخون أنه ملك الدنيا لم يملكها في هذه السرعة، إنما ملكها في نحو عشرين سنة، ولم يقتل أحداً إنما رضي من الناس بالطاعة، وهؤلاء قد ملكوا أكثر المعمورة في الأرض وأحسنه وأكثره عمارة وأهلاً وأعدل أهل الأرض أخلاقاً وسيرة في نحو سنة -شاهد إذا سلط الله عز وجل الأعداء والعياذ بالله- ولم يبت أحد من البلاد التي لم يطرقوها إلا وهو خائف يتوقعهم، ويترقب وصولهم إليه، ثم إنهم لا يحتاجون إلى ميرة ومدد يأتيهم، فإنهم معهم الأغنام والبقر والخيل وغير ذلك.

إلى أن قال: ولقد بلي الإسلام والمسلمون في هذه المدة بمصائب لم يبتل بها أحد من الأمم منها.

ثم قال في آخر الأمر: فإنا لله وإنا إليه راجعون، نسأل الله أن ييسر للإسلام والمسلمين نصراً من عنده، فإن الناصر والمعين والذاب عن الإسلام معدوم، وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له وما لهم من دونه من وال.

أقول: نحن نسمع هذا الوصف من ابن الأثير رحمه الله تعالى نتعجب ونفرغ أفواهنا اندهاشاً ونحن نسمع مثل هذه الكلمات، فنقول: من كان يظن أن تقوم للمسلمين قائمة بعد هذه الأحداث التي وصفها ابن الأثير رحمه الله تعالى!! كل هذه الصفحات والتاريخ مليء بمثل ذلك وغيرها من مواقف الشدة والمحن التي أصابت المسلمين.

أقول: كل هذه بشارات وبشائر تدل على أن ما يحدث للمسلمين اليوم من ضيق وشدة ومحن أن بعدها فرج، وأن بعدها نصر، لكن المهم أن ننصر نحن دين الله.

مفهوم خاطئ يجب ألا يفهم

من كان يظن أننا نقصد بالتفاؤل إذا طلبنا التفاؤل مجرد الفرح والاطمئنان، وبالتالي الركون ودنو الهمة ووهن العزائم والانشغال في الدنيا والتغني بهذا التفاؤل ليل نهار، وذكر مثل هذه البشائر، وأعداء الإسلام يخططون ويعملون ويكيدون فهو مخطئ، أو من كان يظن أننا نقصد بذلك مجرد السرور والاطمئنان المؤدي للثقة المفرطة، والحماس المؤدي بدوره إلى التهور والانفعال اللذان يؤديان إلى عاقبة غير مرضية، ونتائج محرجة فهو مخطئ أيضاً.

إنما نقصد بالتفاؤل: الثقة بنصر الله والفوز والنجاح، وعدم تأثر المسلمين جميعاً بما يوضع لهم من عراقيل، بل إن ذلك يزيدهم طموحاً وتفاؤلاً لأنهم واثقون بنصر الله، الثقة واليقين بنصر الله هذا هو ما نقصده بالتفاؤل، والأمل بنصر الله وتأييده لجنده، هو سبيل الراشدين والفائزين بالنصر (وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ) [الصافات:173] فالمؤمنون وحدهم هم المتفائلون، وغيرهم هم اليائسون.

فاسلك أخي المسلم رعاك الله طريق المؤمنين العاملين المتفائلين، فالفوز حليفك إن شاء الله، وتذكر قول الحق عز وجل: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً) [الأحزاب:22] .

المصدر

المكتبة الشاملة محاضرة بعنوان: “بشائر ومبشرات” للشيخ إبراهيم الدويش بتصرف يسير.

اقرأ أيضا

[ألا أن نصر الله قريب… ولكن..]

أبشروا وأملوا يامعشر المسلمين

“إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا” .. لابن تيمية

بشارات .. لمن المستقبل؟ مختارات من “المسلمون والحضارة الغربية” (10)

التعليقات غير متاحة