أكمل الله هذا الدين فما عادت فيه زيادة لمستزيد وأتم نعمته الكبرى على المؤمنين بهذا المنهج الكامل الشامل، ورضي لهم “الإِسلام” ديناً فمن لا يرتضيه منهجاً لحياته إذن فإنما يرفض ما ارتضاه الله للمؤمنين …

المعنى اللغوي للشمول

الشمول في لغة العرب هو العموم والسعة، تقول العرب: “شملهم الأمر يشملهم إذا عمّهم” ومنه قولهم: “الشملة وهي كساء يُشْتمل به”، ويقال: “اشتريت شملة تشملني”1(1) الصحاح – مادة شمل.. وأما السعة فمن قول العرب: “هذه شملة تشملك أي تسعك”2(2) لسان العرب – مادة شمل..

فإذا عم الشيء ووسع قوماً أو فرداً أو أشياء قالت العرب شملهم وشمله وشملها هذا هو المعنى اللغوي.

والمقصود على وجه التحديد شمول الشريعة الإِسلامية لكل ما يحتاجه الناس على الإِطلاق فلا تخلو حادثة واحدة عن حكم الشريعة في جميع الأعصار والأقطار والأحوال، فالمعاني التي تضمنتها الشريعة تعم جميع الحوادث وتسعها إلى يوم القيامة.

والمعنى اللغوي وهو العموم والسعة مناسب للمعنى المقصود هنا، فإذا شمل الأمر قالت العرب عم ووسع فكذلك الشريعة شاملة أي تعم وتسع جميع الوقائع والحوادث كما أسلفت آنفاً، وسأذكر الأدلة القرآنية على تقرير هذا المعنى.

الدليل الأول على الشمول..تبيانا لكل شيء

وذلك قوله سبحانه وتعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) [النحل: 89].

ومعنى هذه الآية أن الله سبحانه لم يترك شيئاً إلّا وبينه للناس، وجعل في هذا الكتاب دلالة عليه: “إما دلالة مبينة مشروحة، وإما مجملة يتلقى بيانها من الرسول – عليه الصلاة والسلام – أو من الإِجماع أو من القياس الذي ثبت بنص الكتاب” كما يقول الإِمام القرطبي3(3) الجامع لأحكام القرآن: 6/ 420..

وقد جمع -رَحِمَهُ اللهُ- مع هذه الآية قوله تعالى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام: 38].

وهو صنيع الإِمام الشاطبي في الموافقات حيث قال: “المسألة السادسة القرآن فيه بيان كل شيء …

والدليل على ذلك أمور منها: النصوص القرآنية ..

قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) [المائدة: 3].

وقوله: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) [النحل: 89]..

  وقوله: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام: 38].

وقوله: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء: 9].

يعني الطريقة المستقيمة، ولو لم يكمل فيه جميع معانيها لما صح إطلاق هذا المعنى عليه حقيقة وأشباه ذلك من الآيات الدالة على أنه هدى وشفاء لما في الصدور ولا يكون شفاء لجميع ما في الصدور إلّا وفيه تبيان كل شيء”4(4) الموافقات 3/ 244..

وقال الإِمام الشافعي -رَحِمَهُ اللهُ- عند قوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ): “فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلّا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها”5(5) الرسالة: 20. والدلالة هنا إما نصاً أو جملة6(6) الأم: 7/ 277.، وهو المعنى الذي أشار إليه القرطبي آنفاً.

ويقول الإِمام الطبري عند تفسير هذه الآية: إنّ الله نزل هذا القرآن على محمد – صلى الله عليه وسلم – “بياناً لكل ما بالناس إليه الحاجة من معرفة الحلال والحرام والثواب والعقاب “وهدى” من الضلالة “ورحمة” لمن صدّق به وعمل بما فيه من حدود الله، وأمره ونهيه فأحل حلاله وحرّم حرامه “وبشرى للمسلمين” يقول: وبشارة لمن أطاع الله وخضع له بالتوحيد وأذعن له بالطاعة يبشره بجزيل ثوابه في الآخرة وعظيم كرامته، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل”7(7) جامع البيان عن تأويل القرآن 14/ 161 – 162..

وهذه الأدلة تدل دلالة قاطعة على شمول هذه الشريعة لجميع ما يحتاجه الناس في جميع المجتمعات على مر العصور وتغيّر الأحوال.

ولذلك سمّي القرآن: “فرقاناً وهدى وبرهاناً وبياناً وتبياناً لكل شيء وهو حجة الله على الخلق على الجملة والتفصيل والإِطلاق والعموم”8(8) الموافقات 3/ 232..

الدليل الثاني على خاصية الشمول في الشريعة..تفصيلا لكل شيء

قوله تعالى: (وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [الأعراف: 52].

قال ابن جرير: “يقول تعالى ذكره” اقسم يا محمد لقد جئنا هؤلاء الكفرة بكتاب يعنى القرآن الذي أنزله إليهم، يقول: “لقد أنزلنا هذا القرآن مفصلاً مبيناً فيه الحق من الباطل”9(9) جامع البيان في تأويل القرآن 8/ 203، الجامع لأحكام القرآن 7/ 217..

ومثلها في المعنى عند القرطبي قوله تعالى: (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا) [الإِسراء: 12].

والمعنى أن هذا الكتاب جاء بتفصيل أحكام التكليف10(10) الجامع لأحكام القرآن 10/ 228..

ومثلها قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [يوسف: 111].

قال الإِمام القرطبي: “وتفصيل كل شيء” مما يحتاج العباد إليه من الحلال والحرام والشرائع والأحكام”11(11) الجامع لأحكام القرآن 9/ 277..

وقد أمر الله رسوله محمداً – عليه الصلاة والسلام – أن يعلن هذه الحقيقة للناس كافة، لأنها من المعاني التي تضمنتها شهادة أن لا إله إلّا الله وأن محمداً رسول الله، وأن يستنكر ابتغاء غير الله حكماً كما قال سبحانه: (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا) [الأنعام: 114] الآية.

والمعنى: قل يا محمد لمن يعدل بالله غيره: “ليس لي أن أتعدى حكمه وأتجاوزه، لأنه لا حكم أعدل منه، ولا قائل أصدق منه، وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً، يعني القرآن مفصلاً، يعني مبيناً فيه الحكم فيما تختصمون فيه من أمري وأمركم .. “12(12) جامع البيان عن تأويل القرآن: 8/ 8..

وهذه الدعوة التي خاطب بها النبي – صلى الله عليه وسلم – مخالفيه من أهل الشرك، ما زالت تُعرض على البشرية من خلال هذا القرآن، وعن طريق حملته الصادقين، أنه لا حكم أعدل من الله ولا قائل أصدق منه، ولا قبول ولا إذعان إلّا للشريعة الإِسلامية التي جاء بها هذا الكتاب الذي فصله الله فجعل فيه ما تحتاجه البشرية في عالم العقائد والقيم والأحكام.

ولا يحتاج من ابتغى الله حكماً لأي كتاب غير هذا الكتاب ولا لشريعة غير هذه الشريعة ولا لنظام غير نظام الإِسلام، ذلك لأن الله قد كفى المؤمنين مؤنة المسألة لمّا أنزل لهم تلك الآيات في ذلك الكتاب الذي فصله وبينه كما قال القرطبي13(13) الجامع لأحكام القرآن: 7/ 70..

وكفاية الشريعة أمر عقيدة لا يصح إسلام بدونه فمن ابتغى غير الله حكماً راضياً مختاراً فقد أعرض عن هذه الشريعة التي كفته مؤنة المسألة وكان من الممترين، والممتري هو الشاك وقد شهد المؤمنون وغير المؤمنين من أهل الكتاب بأن هذه الشريعة هي الحق وأمر الله نبيه -والخطاب يشمل المؤمنين- أن لا يكونوا من الممترين، وأخبرهم سبحانه أن أهل الكتاب يعلمون أن هذه الشريعة هي الفيصل بين الحق والباطل في حياة الناس، وإن لم يتبعوها14(14) جامع البيان: 8/ 8. كما قال تعالى: (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) [الأنعام: 114].

الدليل الثالث على الشمول..الإكمال والإتمام

وذلك قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة: 3].

ذكر كلام المفسرين في معنى الإكمال

والمعنى الذي تدل عليه هذه الآية كما قال ابن عباس والسدي – رضي الله عنهما – وغيرهما أن الله أتم لعباده هذا الدين وأكمله فلا يحتاجون إلى غيره أبداً، ولا يحتاجون إلى زيادة فيه أبداً.

وترجم له الطبري بقوله: “اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُم أَيُّها المؤمنون فرائضي عليكم وحدودي، وأمري إياكم ونهيي وحلالي وحرامي وتنزيلي من ذلك ما أنزلت منه بوحي على لسان رسولي والأدلة التي نصبتها لكم على جميع ما بكم الحاجة إليه من أمر دينكم فأتممت لكم جميع ذلك فلا زيادة فيه بعد اليوم … “15(15) 6/ 79 وقد اختار -رَحِمَهُ اللهُ-، تفسيراً آخر ستأتي الإشارة إليه إن شاء الله..

وقد فصل الأستاذ سيد قطب هذا المعنى فقال: “أكمل الله هذا الدين فما عادت فيه زيادة لمستزيد وأتم نعمته الكبرى على المؤمنين بهذا المنهج الكامل الشامل، ورضي لهم “الإِسلام” ديناً فمن لا يرتضيه منهجاً لحياته إذن فإنما يرفض ما ارتضاه الله للمؤمنين …

حتى إذا أراد الله أن يختم رسالاته إلى البشر أرسل إلى الناس كافة رسولًا خاتم النبيين برسالة “للإِنسان” لا لمجموعة من الأناسي في بيئة خاصة في زمان خاص في ظروف خاصة .. رسالة تخاطب الإِنسان من وراء الظروف والبيئات والأزمنة لأنها تخاطب فطرة الإِنسان التي لا تتبدل ولا تتحور ولا ينالها التغير: (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) [الروم: 30] …

وفصّل في هذه الرسالة شريعة تتناول حياة “الإِنسان” من جميع أطرافها، وفي كل جوانب نشاطها، وتضع لها المبادئ الكلية والقواعد الأساسية فيما يتطور فيها ويتحور بتغير الزمان والمكان، وتضع لها الأحكام التفصيلية والقوانين الجزئية فيما لا يتطور ولا يتحور بتغير الزمان والمكان … وكذلك كانت هذه الشريعة بمبادئها الكلية وبأحكامها التفصيلية محتوية كل ما تحتاج إليه حياة “الإِنسان” منذ تلك الرسالة إلى آخر الزمان من ضوابط وتوجيهات وتشريعات وتنظيمات لكي تستمر وتنمو وتتطور وتتجدد حول هذا المحور وداخل هذا الإِطار وقال الله سبحانه للذين آمنوا: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة: 3].

فأعلن لهم إكمال العقيدة وإكمال الشريعة معاً فهذا هو الدين .. ولم يعد للمؤمن أن يتصور أن بهذا الدين – بمعناها هذا – نقصاً يستدعي الإِكمال ولا قصوراً يستدعي الإضافة ولا محلية أو زمانية تستدعي التطوير أو التحوير .. وإلّا فما هو بمؤمن وما هو بمقر بصدق الله وما هو بمرتض ما ارتضاه الله للمؤمنين!

إن شريعة ذلك الزمان الذي نزل فيه القرآن هي شريعة كل زمان لأنها بشهادة الله شريعة الدين الذي جاء “للإِنسان” في كل زمان وفي كل مكان لا لجماعة من بني الإِنسان في جيل من الأجيال في مكان من الأمكنة كما كانت تجيء الرسل والرسالات.

الأحكام التفصيلية جاءت لتبقى كما هي، والمبادئ الكلية جاءت لتكون هي الإطار الذي تنمو في داخله الحياة البشرية إلى آخر الزمان دون أن تخرج عليه إلّا أن تخرج من إطار الإِيمان.

والله الذي خلق “الانسان” ويعلم من خلق، هو الذي رضي له هذا الدين المحتوي على هذه الشريعة فلا يقول: إن شريعة الأمس ليست شريعة اليوم إلّا رجل يزعم لنفسه أنه أعلم من الله بحاجات الإِنسان وبأطوار الإنسان! “16(16) في ظلال القرآن 2/ 842 – 843..

ذكر كلام الشاطبي في معنى الإِكمال

وننتقل من كتب التفسير إلى ما قاله الإِمام الشاطبي في المسألة الخامسة: حيث بيّن أن تعريف القرآن بالأحكام الشرعية أكثره كلي لا جزئي ، وما يزال الحديث مستمراً عن تفسير معنى الِإكمال الوارد في الآية، واستدل الإِمام الشاطبي على ذلك بهذه الأدلة:

1 – بالاستقراء، وذلك أن من استقرء السنة وجدها على كثرة نصوصها وكثرة مسائلها بياناً للكتاب، ولذلك وصفها الله سبحانه وتعالى بقوله: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل: 44].

وهذا دليل على أن القرآن جمع الكليات، ولذلك احتاج الناس إلى السنة لبيانه، فمن كليات القرآن مثلاً الصلاة والزكاة والجهاد والنكاح والعقود والقصاص والحدود وغيرها كثير، وبيانها إنما جاء في السنة .

2 – أن كليات الشريعة المعنوية وهي الضروريات والحاجيات والتحسينيات راجعة إلى القرآن وقد تضمنها على الكمال.

3 – أن الأدلة المعروفة وهي السنة والإجماع والقياس ترجع إلى القرآن، فالسنة ترجع إلى قوله تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر: 7].

والإجماع راجع إلى قوله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) [النساء:115].

والقياس راجع إلى قوله تعالى: (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ) [النساء: 105].

وبنى الإِمام الشاطبي المسألة السادسة على هذا المعنى وهي: أن “القرآن فيه بيان كل شيء على ذلك الترتيب المتقدم”17(17) الموافقات: 2/ 243. .. وهذا معنى الإِتمام الوارد في قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) الآية ..

شبهة والجواب عليها

أنْ يقال أنا قد وجدنا من النوازل والوقائع المتجددة ما لم يكن في الكتاب ولا في السنة نص عليه ولا عموم ينتظمه.

ومن أمثلة ذلك المسائل الاجتهادية التي لا نص فيها” .. وقد أجاب الإِمام الشاطبي عن هذه الشبه بعد أن عرضها في كتابه الاعتصام بأجوبة أربعة:

1 – أن قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) المراد منه إكمال الكليات “فلم يبق للدين قاعدة يحتاج إليها في الضروريات والحاجيات أو التكميليات إلّا وقد بُيّنت غاية البيان”18(18) الاعتصام: 2/ 305..

2 – إن المسائل والوقائع التي لا نص فيها موجود حكمها في الكتاب والسنة، وذلك لأن قاعدة الاجتهاد ثابتة فيهما فلا بد من إعمالها، وإذا أعملنا هذه القاعدة ربطنا الجزئيات والمسائل التي لا نص فيها بالكليات الشرعية، وهذه الكليات والقواعد يجري عليها ما لا نهاية له من النوازل.

3 – أن هذه الجزئيات المتجددة نوعان: منها ما هو محتاج إليه ومنها ما هو غير محتاج إليه .. فإن احتاجه الناس كان من مسائل الاجتهاد وهذه مرتبطة بالكليات الشرعية، تشهد لها وتحدد حكمها ، وإن لم يحتاجوه فهو البدع المحدثات، فهذه هي التي لا تجد عليها دليلًا كلياً ولا جزئياً، وبهذا يدخل ما يحتاجه الناس تحت حكم الشريعة وهذا معنى الإِكمال، ولا ينازع أحد من أهل السنة رحمهم الله تعالى فِي أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – جاء ببيان ما يحتاجه الناس في أمور دينهم19(19) الاعتصام: 1/ 49..

4 – أن هذا المعنى هو الذي فهمه الصحابة – رضوان الله عليهم -، ولذلك ردوا الجزئيات إلى الكليات الشرعية فعرفوا حكمها، ولم يقل أحد منهم لِمَ لمْ ينص الشرع على حكم الجد مع الأخوة؟ مثلًا، بل نظروا في الكليات الشرعية واعتبروا معانيها، هذا في الجزئيات المتجددة التي لا نص فيها، وأما ما ورد بها النص فظاهر أن حكمها ردها إلى هذا النص مباشرة، وهذا هو الكمال الذي أدركه الصحابة على التمام – رضي الله عنهم أجمعين – .

الإِكمال والبيان والتفصيل الوارد في الآيات السابقة له معنى واحد

وبالجواب عن هذه الشبه يتبين لنا على وجه اليقين معنى الإِكمال المقصود وكذلك معنى البيان والتفصيل الوارد في الآيات السابقة فإن المعنى واحد، وهو: أن هذه الشريعة وضعها الله سبحانه على حالة الكلية والأبدية وإنْ وضِعت الدنيا على الزوال والنهاية، وإن من أراد أن يتعرف على أحكامها يجب عليه أن ينظر إليها بعين الكمال، ويعتبرها اعتباراً كلياً في العبادات والعادات ولا يخرج عنها ألبتة، لأن الخروج عنها تيه وضلال، وكل من زعم أنه بقي في الدين شيء لم يكمل فقد كذب بقوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) .. فكل ما يحتاجه الناس في أمر الدين ويشمل أمور التشريع كلها في جميع جوانب الحياة بلا استثناء قد بينته هذه الشريعة، وأن الطريق لذلك معلوم عند الصحابة – رضوان الله عليهم – كما هو معلوم عند كل من تبع طريقهم ونهج منهجهم .. وبهذا ندرك معنى الثبات والشمول وكيف بينه القرآن وطبقه رسول الله وأصحابه وكيف ينبغي أن يفهمه المسلمون ويعتقدونه ويطبقه المجتهدون في واقع المجتمع الإِسلامي … وفي هذه العقيدة كما بينها القرآن وبينها الرسول وصحابته بأفعالهم وأقوالهم قطع لمادة الابتداع وسد لباب الشرك فلا خروج على هذه الشريعة لا بجحود ولا تكذيب لشيء منها، ولا باستكبار وإباء عن بعض أحكامها، ولا بتقديم من بين يديها ومن خلفها ولا بتغيير وتبديل لبعض أحكامها ليس شيء من ذلك كله إذا استقرت هذه العقيدة في القلوب وانجلت الشبه عنها.

الهوامش

(1) الصحاح – مادة شمل.

(2) لسان العرب – مادة شمل.

(3) الجامع لأحكام القرآن: 6/ 420.

(4) الموافقات 3/ 244.

(5) الرسالة: 20.

(6) الأم: 7/ 277.

(7) جامع البيان عن تأويل القرآن 14/ 161 – 162.

(8) الموافقات 3/ 232.

(9) جامع البيان في تأويل القرآن 8/ 203، الجامع لأحكام القرآن 7/ 217.

(10) الجامع لأحكام القرآن 10/ 228.

(11) الجامع لأحكام القرآن 9/ 277.

(12) جامع البيان عن تأويل القرآن: 8/ 8.

(13) الجامع لأحكام القرآن: 7/ 70.

(14) جامع البيان: 8/ 8.

(15) 6/ 79 وقد اختار -رَحِمَهُ اللهُ-، تفسيراً آخر ستأتي الإشارة إليه إن شاء الله.

(16) في ظلال القرآن 2/ 842 – 843.

(17) الموافقات: 2/ 243.

(18) الاعتصام: 2/ 305.

(19) الاعتصام: 1/ 49.

المصدر

كتاب: “الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية” الدكتور عابد بن محمد السفياني ، ص131-148بتصرف يسير.

اقرأ أيضا

ثبات الشريعة المحمدية

يؤمنون بالشريعة .. إلا قليلاً !

الإيمان بالله وقضية الشريعة

 

التعليقات غير متاحة