إن القوة في الحق هي سر عز الأمة الإسلامية، ولا يعرف فضل القوة المؤيدة للحق إلا من شقي تحت وطأة الطغيان، وقد أمر الإسلام بالقوة التي تقيم بين الناس موازين القسط، وتبسط بينهم العدل، وقد أدرك أعداء الدين هذا السر، فعملوا على بث الوهن في نفوس المسلمين مما أدى بهم إلى حب الدنيا وكراهية الموت.

القوة في الحق

ما أجمل القوة في الحق حين تندفع برداً وسلاماً، فترفع المظالم النازلة على الأفئدة الكسيرة، وتطفئ الآلام المبرحة التي تحل بالمظلومين والمستضعفين، ولا يعرف فضل القوة المؤيدة للحق إلا من شقي تحت وطأة الطغيان دهراً طويلاً، إن الضعيف والمظلوم كليهما يستقبلان طلائع القوة وزمجرتها كبوارق صبح تشق دامس الظلام، ما أجمل القوة العادلة عندما تحق الحق وتبطل الباطل.

فضل القوة في الحق

إن القوة التي تقيم بين الناس موازين القسط، وتبسط بينهم العدل، هي ما أمر به الإسلام، وربى عليه أتباعه؛ بل حضَّ على بذل النفس والنفيس من أجله، وفي الحديث الصحيح: “المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير”1(1) أخرجه مسلم  (2664). وفي التنزيل العزيز: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) [الأنفال:60].

الحق المسلوب لن يستطيع رده إلا رجال، لهم جرأة في الحق تربو على جرأة عدوهم في الباطل، وعندهم حرص على التضحية في سبيل الله أشد من حرص عدوهم على المؤامرة والسطو والاحتفاظ بمكاسب الحرام.

(إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة:111].

سر هزائم الأمة الإسلامية

إن ما ظفر به أعداء الأمة من سطو واستيلاء لا يرجع إلى خصائص القوة في أنفسهم بقدر ما يعود إلى آثار الوهن في صفوف أصحاب الحق.

ومع طغيان الأثرة، واستبداد الظلم، وانفلات موازين الحق والعدل؛ يبقى العالم محتاجاً إلى القوة التي تعرف العدل والنظام مثل حاجته إلى الطعام والشراب أو أشدّ، بل لا لذة لطعام ولا شراب إذا ساد الخوف وفشا الظلم.

لقد تغير الزمن على المسلمين، فانكمشوا بعد امتداد، ووهنوا من بعد قوة، وما ذلك إلا لسر؛ ولكنه ليس بسر، لقد كشفه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في قوله: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أمن قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت)2(2) أخرجه أحمد وأبو داود في سننه..

هذا هو مبعث الوهن الحقيقي، وذلكم هو سر الضعف المهين، أن تخرج الأمة إلى دنياها ومتاعها، فتعيش أسيرة لأوضاعها الرتيبة، متعلقة بشهواتها، لا هم لها إلا الرغائب المادية.

حب الدنيا يجعل الهمام ضعيفاً رخواً خواراً، يضعف أمام امرأة يحبها، أو شهوة يطلبها، أو لذة عارضة ينشدها.

وكراهية الموت تجعل الأفراد والجماعات يؤثرون حياة ذليلة على موت كريم، يؤثرون حياة يموتون فيها كل يوم موتاً من بعد موت، وذلاً من بعد ذل، على موتٍ كريم يحيون بعده حياة الخالدين.

حياة الغثاء

حياة الغثاء لها سمتان:

أولاهما: خفة الوزن.

وثانيهما: التفكك والتحلل.

وكل ذلك يولد نتيجة مخيفة، إنها فقد السير على الصراط المستقيم، فالغثاء يساق مساق الزبد الجفاء على الأطراف والهوامش.

وفي أجواء الوهن والغثاء يتولد الخفافيش؛ ثرثرتهم أكثر من إنتاجهم، ودعاواهم أكثر من حقائقهم، وشهواتهم أملك لأزمتهم.

الأمة تعيش أزمات وهزائم، وهؤلاء خفافيش سامدون يضحكون ولا يبكون، وفي الأندية يتسامرون، وفي أجواء من الجدل العقيم يتفيقهون؛ بل هم في خوض يلعبون، ديدن كثير منهم التلاسن في القنوات والمحطات والكتابات، مما ولد موت الشعور، وعدم الاكتراث بأحداث الأمة وهمومها.

آثار الوهن

في أحوال الضعف، وحياة الهوان، وهجواء الغثاء، ترى نفوساً تحللت من المعاصي، وشعوباً انحلت بالإسراف، وأقواماً تهدمت لحب الدنيا وكراهية الموت؛ وحينئذٍ ينتصر الكافرون، وينتفش المبطلون.

حين تضعف الأمة، يطمع فيها من لا يستطيع الدفاع عن نفسه، والقطيع السائب تفترسه الكلاب قبل الذئاب، المعارك يربحها أصحاب العقائد والمبادئ والتضحيات، ولا يربحها المهازيل عباد الشهوات، وأسارى الدنيا.

أي ذل وأي إهانة وأي وهن أكبر من أن يقتل فئام من العرب والمسلمين ولا يسمى ذلك إرهاباً، ويقيدون ويؤسرون ولا يعد ذلك ذلاً؟!

أما غيرهم من أبناء الأمم الأخرى، فإن اعتراض طريقهم، أو تهديد أمنهم، أو الوقوف في مصالحهم يعد جريمة كبرى، وينشئ أزمة عالمية، ويشغل المحافل الدولية، وتتردد أصداؤه في وسائل الإعلام الكبرى.

أوضاع حلت بالأمة في كثير من ديارها وأصقاعها، دكت كيانها، ومزقت شملها، وأغرت أعداءها بالانقضاض عليها.

إن المسلم لا يقيم العزاء على شيء فاته، ولا يندب حظه لأمر نزل به، ولكنه ينظر ويتأمل، ويذكر سنن الله، فهو يفقه كل الفقه أن الانتصار والهزيمة ليست حظوظاً عمياء ولا هي خبط عشواء كلا ثم كلا! بل إن الأمور تسير إلى نهايتها وفق سنن الله ومقاديره، ولا مبدل لحكمه، وعند النظر والتحقيق والحساب الدقيق، تدرك أن الضعيف هو الذي فعل ذلك بنفسه، والمنتحر لا يتهم أحد بقتله، فهو قاتل نفسه.

خطر أعداء الدين

إن الأعداء لم ينتصروا بقواهم الخاصة قدر ما انتصروا بضعف كثيرٍ من القلوب في إيمانها، وافتقار الصفوف إلى الوحدة والتراص.

أسلحة أعداء الدين

ليست أثقال القوة العسكرية، ولا القنابل الذرية، ولا أسلحته الجرثومية أخطر أسلحة عدونا.

إن أخطر أسلحة وأمضاها: زيوف الأفكار التي تسوق المسلمين إلى الدمار، وإطلاق الأهواء، والغرائز والشهوات، والأنانيات، وفشو المظالم، وهضم الحقوق، بعد اهتزاز ثوابت الإيمان، وضوابط الأخلاق، وبث روح اليأس والتيئيس في النفوس.

إن المتأمل في هزائم الأمة، وصراعها مع أعدائها، يدرك أن الجهود الماكرة للأعداء في ميادين التربية والتعليم والإعلام قد آتت كثيراً من أكلها، والمر من ثمارها.

من عشرات السنين وخطط الأعداء جادة في ذود الأجيال عن القرآن الكريم ذوداً، وتجهيلهم بدينهم تجهيلاً.

قوى كافرة ماكرة إذا احتاج الأمر إلى اللين لانت، وإذا احتاج إلى القسوة بطشت.

في لينها تدس السموم، وفي شدتها تقتحم الهمجية والجبروت، يخفرون كل ذمة، ويخادعون في كل قضية، الغاية عندهم تبرر الوسيلة، يجيدون العبث والتحريف والتجسس والإفساد.

واجب المسلمين تجاه خطط أعداء الدين

في هذه الأجواء كان ينبغي أن تكون الجباه مقطبة، والنفوس جادة غير هازلة، كان ينبغي أن يطير النوم من عيون الهاجعين.

ومع كل هذا فإن العدو الخطير أهون مما يتصور المتشائمون والمذعورون واليائسون والانهزاميون.

إن الانتصار على الأعداء ولو طال الزمن لا يتطلب إلا سلاحاً واحداً يستخدم بصدق وإخلاص وجد وعزيمة، إنه سلاح محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم؛ سلاح الإيمان بالله، وإخلاص التوحيد والعبادة، والعمل بالإسلام، والسير على نهج محمد صلى الله عليه وسلم في السلم وفي الحرب.

يجب أن يعي المسلمون أن الإسلام وحده هو مصدر الطاقة الذي تضيء به مصابيحهم، وتنير به مشاعلهم، وبدون الإسلام ليسوا إلا زجاجات وقوارير فارغة لا يوقدها زيت، ولا يشعلها ثقاب.

ليس للمسلمين عز ولا شرف ولا حق ولا كرامة إلا بالإسلام، إنهم إن أنكروا ذلك، أو تنكروا له، فلن يجدوا من دون الله ولياً ولا نصيراً.

إنهم بغير الإسلام أقوام متناحرة، وقطعان مشتتة، بل سقط متاع، وأصفار من غير أرقام.

يجب أن تربى الأمة على الإقبال على المخاطر لتسلم لها الحياة؛ في دعائم موطدة من الدين القويم والخلق المستقيم، وفي دعاء صادق تنطلق به الحناجر: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [آل عمران:147].

يجب تأصيل التعامل مع المستجدات والأحداث بنظرة إسلامية، واعتماد أجهزة الإعلام بالنظرة الإيمانية، وتوحيد مصدر التثبت في الأنباء على منهج القرآن المدلول عليه بقوله سبحانه: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء:83].

أما اليأس والتيئيس فليعلم أن اليهود تحملوا العيش في الشتات آلاف السنين، ولم ينسوا مزاعمهم في أرضهم الموعودة، فهل يضطرب أهل الحق المسلمون لمتاعب عشرات السنين، تبلغ الخمسين أو الستين أو ما فوق ذلك، ويفرطون في حقوقهم؟! كلا ثم كلا.

إن الأمة بحاجة إلى تربية جادة، تصب الأجيال في قوالب الإيمان، وترصهم في ميادين الجهاد والمثابرة وطول الكفاح.

ولنا من حديث اليأس ما نحذر به الخصوم والأعداء، فحذار من دفع خصمك نحو اليأس.

إن غلق الأبواب، ومحاولة التضييق على الخصم في ركن أو زاوية، وسد فرص الاختيار يفجر طاقات الغضب والكبت، والانتقام والآلام.

إن هذا المسلك يدفع نحو مواقف متطرفة، يغذيها الحقد والتشفي والقمع الطويل.

إن في كتاب ربنا ما يربينا ويهدينا، ويدلنا ويرشدنا، فقد سرد لنا أنواع القصص، وضرب لنا روائع الأمثال، ثم قال: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً) [الفرقان:20]، وبالتربية القرآنية سوف تنبعث الهمة في الأمة، وينبت فيها الطموح والتطلع العالي، وهمك على قدر ما أهمك، وعلى قدر أهل العزم تكون العزائم.

القوة الإيمانية

إن العظمة الإنسانية والقوة الإيمانية لا تعرف في الرخاء قدر ما تعرف في الشدة، والنفوس الكبار هي التي تملك أمرها عند بروز التحدي، ألا ما أسعد المجتمع بالأقوياء الراسخين من أبنائه، وما أشقاه بالضعاف المهازيل الذين لا ينصرون صديقاً، ولا يخيفون عدوا، ولا تقوم بهم نهضة، ولا ترفع بهم راية.

لقد ابيضت عين الدهر، ولم ترَ مثل المؤمن في قوته وبذله وفدائه.

المؤمن لا تخيفه قوة المادة ولا لغة الأرقام؛ فهو يقدم من ألوان التضحية، وضروب الفداء، وأنواع البذل، ما لا يصدقه الأعداء.

المؤمن لا يصرفه عن حقه وعد، ولا يثنيه عن همته وعيد، ولا ينحرف به الطمع، ولا يضله هواه، ولا تغلبه شهوة؛ فهو دائماً داع إلى الخير، مقاوم للشر، آمرٌ بالمعروف، ناه عن المنكر، هادٍ إلى الحق، فاضح للباطل؛ لئن كسر المدفع سيفه، فلن يكسر الباطل حقه.

المؤمن قوي؛ لأنه على عقيدة التوحيد وعلى طريق الحق، لا يعمل لعصبية جاهلية ولا من أجل البغي على أحد، إنه قوي بإيمانه، مستمسك بالعروة الوثقى، يأوي إلى ركن شديد: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [البقرة:25].

المؤمن بإيمانه ليس مخلوقاً ضائعاً، ولا رقماً هملاً، ولو تظاهر عليه أهل الأرض أجمعون: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [آل عمران:173] (وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا) [إبراهيم:12].

الهوامش

(1) أخرجه مسلم  (2664).

(2) أخرجه أحمد وأبو داود في سننه.

المصدر

المكتبة الشاملة، محاضرة للشيخ/ د. صالح بن عبد الله بن حميد.

اقرأ أيضا

القوةُ التي لا تُغلب .. والعدو الظاهر والمتستر

“امتلاك القوة” خطوة للخروج من التبعية والتمكين للشريعة

الأمة الإسلامية بين أسباب السقوط وعوامل النهوض

إحياء الأمة وإقامة الحكم الإسلامي

 

التعليقات غير متاحة