إن من أعظم وأهم أسباب قوّة القلب ورسوخ اليقين، وسلامة الصدر، وتمام الرضا؛ الاستسلام لله -عز وجل- في أمره ونهيه، وقضائه وقدره، فالكون كونه، والخلق خلقه، وهو المالك على الحقيقة، وغيره مملوك، وهو الرب المتصرف بالتدبير والتقدير، وغيره مربوب.

أركان التسليم

تحدثنا في مقالات سابقة عن أركان التسليم لله عز وجل، التي يقوم عليها القلب السليم وذلك في الأركان التالية .

الركن الأول: تسليم القلب لكل خبر أخبر به الله عز وجل في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.

الركن الثاني: تسليم القلب لكل ما أمر به الله عز وجل من الأوامر الشرعية، أو نهی عنه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.

الركن الثالث: إخلاص العبودية لله عز وجل، وسلامة القلب من أي إرادة دنيوية، تعارض هذا الإخلاص، فلا شرك في القلب ولا رياء.

وفي هذا المقال نتحدث عن الركن الرابع من أركان التسليم لله عز وجل.

الركن الرابع: سلامة القلب من أي اعتراض يعارض قدر الله عز وجل وأمره الكوني

التسليم لقضاء الله عز وجل وقدره، وعدم الاعتراض على أمره القدري بشبهة أو شهوة.

ما معنی کون القلب سالما من أي اعتراض على قدر الله عز وجل وقضائه؟

إنه لا بد من التفصيل في الجواب على هذه المسألة، لأنه قد ضلت فيها أفهام وزلت أقدام، ووفق الله عز وجل من وفق، لما اختلف فيها من الحق بإذنه، فنسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم.

إن الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان الستة، لا يصح إيمان العبد إلا بتحقيقها جميعا.

والإيمان بالقضاء والقدر يعني الإيمان بأن كل شيء مما خلقه الله سبحانه أو أمر به، إنما كان بعلم الله عز وجل القديم وكتابته له ومشيئته وخلقه له، وأن يعلم العبد أن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه.

والقضاء والقدر له جانبان

۱- جانب متعلق بالله عز وجل وفعله وقضائه. وفعله: صفة من صفاته، وهو مقتضى أسمائه الحسنى وصفات الله عز وجل كلها حسنى، فيجب على العبد محبة أفعال الله والرضا بها، ولا يعترض عليها، وأن يسلم للحكم الربانية فيها، وإن جهلها.

۲- جانب متعلق بالعبد المخلوق، فيكون مقضيا على العبد، والمقضي على العبد نوعان:

أ- مقضي عليه من جهة المعائب: کالكفر والفسوق والمعاصي، وهذه تحصل بإرادة العبد، وهذا النوع من المقضيات يجب کرهها ومدافعتها وتركها والتوبة منها إذا فعلت، وعدم الاستسلام لها، لأنها وإن قضاها الله عز وجل بحكمته فقد أخبرنا أنها غير مرضية له سبحانه والعبد يحب ما يحبه الله، ويكره ما يكرهه، قال تعالى: ﴿إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ ۖ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ۖ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾ [الزمر: 7]، فمثل هذه وإن أرادها الله عز وجل کونا وقدرا لحكمة ما فإنه سبحانه لم يردها دينا وشرعا، بل أمر بتركها، وهنا يتهافت مذهب الجبرية الصوفية وبعض جهلة المسلمين، الذين يحتجون بالقدر على فعل المعاصي.

ب- المقضي على العبد من جهة المصائب: کالحياة والموت، والغنى والفقر، والصحة والمرض، والفرح والحزن، وهذا نوعان:

الأول: مصائب ومقضيات يمكن للعبد مدافعتها: كدفع الجوع بالأكل، والحريق بالإطفاء ودفع الصائل بالجهاد… إلخ، فكونها مقضية مفعولة لله عز وجل ، فإن الواجب على العبد عدم الاستسلام لها بحجة كونها قضاء وقدرا، بل يجب مدافعتها قدر الإمكان، كما قال عمر رضي الله عنه عندما ترك الدخول لبلد الطاعون: (نفر من قدر الله إلى قدر الله). وهذا معنى قول من قال من السلف: (ندفع قدر الله بقدر الله)، فالدفع والمدفوع كله بقدر الله عز وجل.

فإذا فعلت الأسباب في دفع المقدور الممكن دفعه ولم يكتب الله عز وجل النفع بها، فإنها تتبع للنوع الثاني التالي ذكره.

الثاني: مصائب ومقدرات لا يمكن مدافعتها أو بذلت الأسباب في دفعها ولم ينفع الله بها، فإن على العبد والحالة هذه التسليم لقضاء الله عز وجل والصبر على مقدوره واليقين بحكمة الله عز وجل فيما قضاه وقدره.

ولأهل العلم تقسيم لأحوال الناس في مواقفهم من هذا النوع من المقضيات.

– حال محرمة، وهي الجزع والتسخط وعدم الصبر.

– حال واجبة، وهي الصبر.

– حال مستحبة، وهي الرضا أي الرضا، (بالمقضي)، وعدم کرهه. هذا مستحب، أما الرضا بكونه قضاء وفعلا لله تعالى فهو واجب ففرق بين القضاء والمقضي.

– حال کمال: وهي الشكر لله عز وجل على قضائه ومقضيه.

أحكام الله عز وجل بين الاستسلام والمنازعة والمدافعة

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في بيان ما سبق: «الأحكام ثلاثة: حکم شرعي ديني، فهذا حقه أن يتلقی بالمسالمة والتسليم وترك المنازعة، بل بالانقياد المحض، وهذا تسلیم العبودية المحضة، فلا يعارض بذوق ولا وجد ولا سياسة ولا قياس ولا تقلید، ولا يرى إلى خلافه سبيلا البتة، وإنما هو الانقياد المحض والتسليم والإذعان والقبول، فإذا تلقى بهذا التسليم والمسالمة إقرارا وتصديقا بقي هناك انقياد آخر وتسليم آخر له إرادة وتنفيذا وعملا، فلا تكون له شهوة تنازع مراد الله من تنفيذ حكمه، کما لم تكن له شبهة تعارض إيمانه وإقراره، وهذا حقيقة القلب السليم، الذي سلم من شبهة تعارض الخبر، وشهوة تعارض الأمر، فلا استمتع بخلاقه كما استمتع به الذين يتبعون الشهوات، ولا خاض في الباطل خوض الذين يتبعون الشبهات، بل اندرج خلاقه تحت الأمر، واضمحل خوضه في معرفته بالحق، فاطمأن إلى الله معرفة به، ومحبة له، وعملا بأمره، وإرادة لمرضاته. فهذا حق الحكم الديني.

الحكم الثاني: الحكم الكوني القدري، الذي للعبد فيه کسب واختيار وإرادة، والذي إذا حكم به يسخطه ويبغضه ويذم عليه، فهذا حقه أن ينازع ويدافع بكل ممكن، ولا يسالم البتة، بل ينازع بالحكم الكوني أيضا، فینازع حكم الحق بالحق للحق، فيدافع به وله، كما قال شيخ العارفين في وقته عبد القادر الجيلي: (الناس إذا دخلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا، وأنا انفتحت لي روزنة، فنازعت أقدار الحق بالحق للحق، والعارف من يكون منازعا للقدر لا واقفا مع القدر).

فإن ضاق ذرعك عن هذا الكلام وفهمه، فتأمل قول عمر بن الخطاب وقد عوتب على فراره من الطاعون، فقيل له: أتفر من قدر الله؟! فقال: (نفر من قدر الله إلى قدره).

ثم كيف ينكر هذا الكلام من لا بقاء له في هذا العالم إلا به، ولا تتم له مصلحة إلا بموجبه، فإنه إذا جاءه قدر من الجوع والعطش أو البرد نازعه، وترك الانقياد له ومسالمته، ودفعه بقدر آخر من الأكل والشرب واللباس، فقد دفع قدر الله بقدره، وهكذا إذا وقع الحريق في داره، فهو بقدر الله، فما باله لا يستسلم له ويسالمه ويتلقاه بالإذعان بل ينازعه ويدافعه بالماء والتراب وغيره، حتى يطفئ قدر الله بقدر الله، وما خرج في ذلك عن قدر الله، وهكذا إذا أصابه مرض بقدر الله، دافع هذا القدر ونازعه بقدر آخر، يستعمل فيه الأدوية الدافعة للمرض، فحق هذا الحكم الكوني أن يحرص العبد على مدافعته ومنازعته بكل ما يمكنه، فإن غلبه وقهره حرص على دفع آثاره وموجباته بالأسباب التي نصبها الله لذلك، فيكون قد دفع القدر بالقدر، ونازع الحكم بالحكم، وبهذا أمر.

هذا حقيقة الشرع والقدر، ومن لم يستبصر فيه هذه المسألة، ويعطها حقها، لزمه التعطيل للقدر أو الشرع، شاء أو أبي، فما للعبد ينازع أقدار الرب بأقداره في حظوظه وأسباب معاشه ومصالحه الدنيوية، ولا ينازع أقداره في حق مولاه وأوامره ودينه، وهل هذا إلا خروج عن العبودية، ونقص في العلم بالله وصفاته وأحكامه، ولو أن عدوا للإسلام قصده لكان هذا بقدر الله، ويجب على كل مسلم دفع هذا القدر بقدر يحبه الله، وهو الجهاد باليد أو المال في العبودية، اللهم إلا إذا بذل العبد جهده في المدافعة والمنازعة، وخرج الأمر عن يده، فحينئذ يبقى من أهل الحكم الثالث التالي ذكره.

الحكم الثالث: وهو الحكم القدري الكوني، الذي يجري على العبد بغير اختياره، ولا طاقة له بدفعه، ولا حيلة له في منازعته، فهذا حقه أن يتلقی بالاستسلام والمسالمة وترك المخاصمة، وأن يكون فيها كالميت بين يدي الغاسل، وكمن انكسر به المركب في لجة البحر، وعجز عن السباحة وعن سبب يدنيه من النجاة، فههنا يحسن الاستسلام والمسالمة، مع أن عليه في هذا الحكم عبوديات أخر، سوى التسليم والمسالمة، وهي أن يشهد عزة الحاكم في حكمه، وعدله في قضائه، وحكمته في جريانه عليه، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وإن الكتاب الأول سبق بذلك قبل بدء الخليقة، فقد جف القلم بما يلقاه كل عبد، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط، ويشهد أن القدر ما أصابه إلا لحكمة اقتضاها اسم الحكيم جل جلاله وصفته الحكمة، وأن القدر قد أصاب مواقعه، وحل في المحل الذي ينبغي له أن ينزل به، وأن ذلك أوجبه عدل الله وحكمته وعزته وعلمه وملکه العادل، فهو موجب أسمائه الحسنى وصفاته العلى، فله عليه أكمل حمد وأتمه، کما له الحمد على جميع أفعاله وأوامره)1(1) طريق الهجرتين 1/66-68..

كيف يقوى التسليم للقضاء والقدر؟

إن مما يقوي التسليم لقضاء الله عز وجل والرضا به بعد فعل الأسباب لما يمكن دفعه بالأسباب: معرفة أسماء الله الحسني وآثارها ومقتضياتها في الخلق والأمر، والتعبد لله سبحانه بها، ولا سيما أسمائه سبحانه (العليم، الحكيم، اللطيف، الرحمن الرحيم، العزيز، الرؤوف) وما تثمره من الاطمئنان والرضى وحسن الظن بالله عز وجل، الذي يعلم ولا نعلم، وله الحكمة في كل ما خلق وأمر، وهو اللطيف بعباده المؤمنين، ومن لطفه سبحانه أن يقدر على عبده المؤمن ما ظاهره المكروه والمحنة ولكن في أعطافه المنحة والخير والعاقبة الحسنة.

يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: ﴿لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ۖ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الأنعام: 103]. (الذي لطف علمه وخبرته، ودق حتى أدرك السرائر والخفايا، والخبايا والبواطن. ومن لطفه، أنه يسوق عبده إلى مصالح دينه، ويوصلها إليه بالطرق التي لا يشعر بها العبد، ولا يسعى فيها، ويوصله إلى السعادة الأبدية، والفلاح السرمدي، من حيث لا يحتسب، حتى إنه يقدر عليه الأمور، التي يكرهها العبد، ويتألم منها، ويدعو الله أن يزيلها، لعلمه أن دينه أصلح، وأن كماله متوقف عليها، فسبحان اللطيف لما يشاء، الرحيم بالمؤمنين)2(2) تفسير السعدي ص 268..

ماذا على الإنسان لو يستسلم؟

ويقول سید قطب رحمه الله تعالى: عند قوله تعالى: ﴿وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 216].

(وهكذا يربي الإسلام الفطرة، فلا تمل التكليف، ولا تجزع عند الصدمة الأولى، ولا تخور عند المشقة البادية، ولا تخجل وتتهاوی عند انکشاف ضعفها أمام الشدة. ولكن تثبت وهي تعلم أن الله يعذرها، ويمدها بعونه ويقويها. وتصمم على المضي في وجه المحنة، فقد يكمن فيها الخير بعد الضر، واليسر بعد العسر، والراحة الكبرى بعد الضنى والعناء. ولا تتهالك على ما تحب وتلتذ. فقد تكون الحسرة كامنة وراء المتعة! وقد يكون المكروه مختبئا خلف المحبوب. وقد يكون الهلاك متربصا وراء المطمع البراق… إنه الدخول في السلم من بابه الواسع.. فما تستشعر النفس حقيقة السلام، إلا حين تستيقن أن الخيرة فيما اختاره الله .. وأن الخير في طاعة الله دون محاولة منها أن تجرب ربها، وأن تطلب منه البرهان! إن الإذعان الواثق والرجاء الهادئ والسعي المطمئن.. هي أبواب السلم الذي يدعو الله عباده الذين آمنوا ليدخلوا فيه كافة.. وهو يقودهم إليه بهذا المنهج العجيب العميق البسيط. في يسر وفي هوادة وفي رخاء.. وكل إنسان – في تجاربه الخاصة – يستطيع حين يتأمل أن يجد في حياته مکروهات كثيرة، كان من ورائها الخير العميم. ولذات كثيرة كان من ورائها الشر العظيم .

وكم من مطلوب كاد الإنسان يذهب نفسه حسرات على فوته؛ ثم تبين له بعد مدة أنه كان إنقاذا من الله أن فوت عليه هذا المطلوب في حينه. وكم من محنة تجرعها الإنسان لاهثا يكاد يتقطع لفظاعتها. ثم ينظر بعد مدة فإذا هي تنشئ له في حياته من الخير ما لم ينشئه الرخاء الطويل.

إن الإنسان لا يعلم. والله وحده يعلم. فماذا على الإنسان لو يستسلم؟ إن هذا هو المنهج التربوي الذي يأخذ القرآن به النفس البشرية. لتؤمن وتسلم وتستسلم في أمر الغيب المخبوء، بعد أن تعمل ما تستطيع في محيط السعي المكشوف..)3(3) في ظلال القرآن 1/223-225 باختصار..

ويقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى في سرده للفوائد المأخوذة من قصة الخضر مع موسى عليه السلام في سورة الكهف.

(ومنها: أن هذه القضايا التي أجراها الخضر هي قدر محض، أجراها الله، وجعلها على يد هذا العبد الصالح، ليستدل العباد بذلك على ألطافه في أقضيته، وأنه يقدر على العبد أمورا يكرهها جدا، وهي صلاح دينه، كما في قضية الغلام، أو هي صلاح دنياه كما في قضية السفينة، فأراهم نموذجا من لطفه وكرمه، ليعرفوا ويرضوا غاية الرضا بأقداره المكروهة)4(4) تفسير السعدي ص 482..

وإن مما يقتضيه التسليم لقدر الله عز وجل وعدم الاعتراض عليه سلامة القلب من الحسد، لأن الحسد في حقيقته اعتراض على قدر الله عز وجل في إعطاء فلان ومنع فلان.

الهوامش

(1) طريق الهجرتين 1/66-68.

(2) تفسير السعدي ص 268.

(3) في ظلال القرآن 1/223-225 باختصار.

(4) تفسير السعدي ص 482.

اقرأ أيضا

أركان التسليم لله رب العالمين

تسليم القلب لأحكام الشريعة

إبراهيم وإسماعيل إذ يجسدان معنى التسليم

النجاة والسعادة في سلامة القلب من أي إرادة تعارض الإخلاص

 

التعليقات غير متاحة