إقامة الدين التي نتعرض لها هنا ليست للجماعة المؤمنة وهي في طور النشوء والسعي للتمكين، وإنما إقامة الدين التي نود الكلام عنها هنا حين تصبح دعوة الحق لها دولة ومجتمع ونظام وحكم، فما مدى دور إقامة الدين في نظام الحكم وتسيير المجتمع؟ وتطبيق حدوده وأحكامه تطبيقًا تامًا؟ ما دور ذلك في تمكين الدولة؟ وفي إرغاد عيشها وزيادتها من تمكين إلى تمكين؟

فلقد تعاقبت على حكم المسلمين دول إثر دول إلى هذا اليوم، وطالما حدثنا التاريخ والحاضر عن أكثر تلك الدول، وعن روغانها عن إقامة حدود من الدين وإقامة حدود أخرى منه حسب ما يلائم مزاج الحاكم الظالم أحيانًا. وأحيانًا تخوفًا على الدولة وصلاحيات الحكم، وأحيانًا لسوء ظن وضعف يقين بما أمر الله به ونهى عنه، وأن الفلاح والحل في غيره أصوب وأرشد.

إقامة الدين سعادة في الدنيا قبل الآخرة

ولكن هذا هو القرآن والتاريخ يشهد كل منهما أن إقامة دين الله رغد ما بعده رغد، وسعادة وهناءة للحاكم والمحكوم، وحتى للهوام والدواب وحشائش الأرض وأمطار السماء، وسبب لفتح بركات لا تنتهي، ونعيم كريم عظيم.

قال – تعالى -: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف: 96] .

وقال – تعالى -: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) [المائدة: 65 – 66] .

إن الله – سبحانه وتعالى – يؤكد هنا أن أهل الكتاب لو أقاموا ما أنزل الله على أنبيائه من كتب، لسعدوا في الدنيا قبل الآخرة، ولفتح الله له بسبب ذلك بركات الأرض وزروعها وثمارها، ولأصبحوا يجدون الرزق والأكل وأطيب الطعام تخرجه لهم زروع الأرض يتدلى فوق رؤوسهم، ويلتقطونه من تحت أرجلهم أينما كانوا في أرضهم أو طرقهم أو منازلهم، وهذا غاية عظيمة في النعيم وما ذلك إلا بسبب إقامة الدين، وهذه الحال المتعلقة بإقامة الدين ليست لأهل الكتاب خاصة، بل لكل أمة تقيم دين الله، إقامة جادة، فإن أهل القرى التي أهلكها الله من قبل أهل الكتاب لو أقاموا الدين وآمنوا واتقوا لفتح الله لهم بركات من السماء والأرض.

لما أقاموا الدين صاروا سادة العالم وأرباب خيراته وغلاته

وكذلك هذه الأمة، أمة محمد – صلى الله عليه وسلم – موعودة بذلك، وقد وقع في تاريخها مرارًا وتكرارًا حين أقامت دين الله، ففي عهد الخلفاء الراشدين ومن بعدهم حين كان الدين مقامًا في الدولة، كانت تُثل عروش ممالك الدنيا ودولها شرقًا وغربًا، وتلفظ بركاتها وكنوزها وخيراتها في أيدي المسلمين، فكانوا سادة العالم وأرباب خيراته وغلاته، وهذا هو رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول في حديث عدي بن حاتم الذي رواه الإمام البخاري: «أما قطع السبيل فإنه لا يأتي عليك إلا قليل، حتى يخرج العير إلى مكة بغير خفير. وأما العيلة فإن الساعة لا تقوم حتى يطوف أحدكم بصدقته، ولا يجد من يقبلها»1(1) صحيح البخاري في الزكاة، باب «الصدقة قبل الرد» (2 / 222) . الحديث.

حين تقام شعائر الدين يكون الأمن والاطمئنان

فيقول راوي الحديث عدي بن حاتم – رضي الله عنه -: فلقد رأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها لا تخاف شيئًا حتى تبلغ هذا البيت، وكان عدي بن حاتم – رضي الله عنه – لم يدرك تحقق النبوءة الثانية وهي فيضان المال، ولكنه كان – رضي الله عنه – يحلف بالله لتكونن2(2) راجع سير أعلام النبلاء (3 / 164) ..

وبالفعل كانت بعد عدي بن حاتم – رضي الله عنه – في عهد الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز حيث فاض المال في عهده حتى لم يوجد من يأخذ الصدقة؛ عن عمر بن أسيد قال: “والله ما مات عمر بن عبد العزيز حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم، فيقول: اجعلوا هذا حيث ترون، فما يبرح حتى يرجع بماله كله، قد أغنى عمر الناس”3(3) سير أعلام النبلاء (5 / 131) . .

الأمن يكون حليف كل دولة تقيم دين الله بين أمصارها وأفرادها

إن ما بشر به النبي – صلى الله عليه وسلم – من ظهور الأمن حتى رأي عدي بن حاتم راوي الحديث صدق بشارته، ورأى المرأة من العراق حاجة تؤم مكة تقطع الصحارى والقفار الموحشة وحيدة لا تخاف حتى تصل البيت، إنما كان ذلك الأمن المطمئن حين أقيمت شعائر الدين في دولة الإسلام في عهد الخلفاء الراشدين، وما ذلك إلا لظهور دولة الإسلام المقيمة لدين الله، فكان الأمن الذي لا يعرفه العالم اليوم ولا يشهد له مثيلًا، ولقد تعاقبت دول في تاريخ الإسلام وتفاوتت في إقامة الدين إلا أنا نرى بشهادة التاريخ أن الأمن كان حليف كل دولة أقامت دين الله بين أمصارها وأفرادها، وجعلته نظام حكمها، ونراه يقل ويضمحل إلى أن يتلاشى حين يقل ويتراخى موقف الحكام من إقامة الدين وربما ينقلبون على دينهم، فيقلب الله عليهم الأمن خوفًا، أما فيضان المال في عهد عمر فليس لكثرة الفتوح في عهده، فالفتوح في عهده كما هي في عهد من سبقه، وليس ذلك ناتج عن حسن تخطيط لاقتصاد الدولة، وإنما كان السبب الأول والأخير هو إقامة دين الله وشعائره في عهد عمر فقد أحيا – رضي الله عنه – مواقيت الصلاة بعد أن أميتت، ورد المظالم، وعزل العمال الظلمة، وأقام الدين4(4) راجع سير أعلام النبلاء للذهبي (5 / 125) . إقامة شهدت له بها الرعية كلها برها وفاجرها، وشهد له بها التاريخ إلى يومنا الحاضر. فكان ذلك الرغد من العيش بسبب ذلك.

الأمة التي تتخلى عن إقامة الدين يلبسها الله لباس الجوع والخوف

أما عند ترك إقامة الدين أو التخلف والتقهقر عنها فإن الله – سبحانه وتعالى – يعاقب تلك الأمة المسلمة التي تنكرت لدينها بإلباسها لباس الجوع والخوف، وتنكيد عيشها، وثل عروش ملكها، وينزل – سبحانه وتعالى – بها من أليم عقابه وشدة بأسه ما لا ينزله بالدول الكافرة ابتداءً، وذلك أن هذه الدولة المسلمة عرفت ثم أنكرت وآمنت ثم كفرت، ووصلت إلى الأمن والعز والرغد بدين الله وطاعتها لله ثم جحدت بعد ذلك؛ فيذيقها الله بذلك ما لا يذيق الكافرين وذلك أن الله – سبحانه وتعالى – “يعاقب على الكفران بالنعمة ما لا يعاقب على الكفر، وعلى الكنود ما لا يعاقب على الجحود”5(5) «ردة ولا أبا بكر لها» للندوي (45، 26،27) ..

وهذا القرآن يبين لنا حال الدولة التي تنكرت للدين وإقامته ومدى تأثير ذلك عليها قال – تعالى -: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [النحل: 112] .

وقال – تعالى -: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال: 53] .

الملك بالدين يبقى والدين بالملك يقوى

وهذا هو رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يبين لنا أن إقامة الدين سبب لحفظ ملك الأمة الإسلامية وعزها وأن الله – سبحانه وتعالى – يمكن به الحاكم المسلم ويؤيده، وأنه لا ينزع الملك منه إلا إذا ترك إقامة الدين، وأن من يتخلى عن إقامة الدين يبعث الله له من يسومه سوء العذاب.

عن معاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «إن هذا الأمر في قريش، لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه، ما أقاموا الدين»6(6) رواه البخاري وأحمد، صحيح البخاري، المناقب، مناقب قريش (5 / 13) ..

وعن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «أما بعد يا معشر قريش، فإنكم أهل هذا الأمر – يعني الخلافة – ما لم تعصوا الله فإذا عصيتموه بعث عليكم من يلحاكم كما يُلحى هذا القضيب»7(7) رواه أحمد في المسند (6 / 176) رقم الحديث 4380.

ولقد صدق ابن المعتز حين قال: الملك بالدين يبقى والدين بالملك يقوى

بركة إقامة الدين في التمكين من معايش الآرض وسلامتها من المنغصات

ومما ورد في السنة مما يشهد بأن إقامة الدين ليست سببًا في حصول التمكين في الحكم والسلطة والنصر فحسب بل يتعدى بحصولها التمكين حتى يصل إلى التمكين من معايش الأرض بكثرة بركتها وسلامتها من الآفات والكوارث والمكدرات والمنغصات؛ وفي حديث أبي أمامة رضي الله عنه في نزول عيسى ابن مريم وإقامة دين الله في الأرض أكبر شاهد على ذلك. قال رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( … «فيكون عيسى ابن مريم – عليه السلام – في أمتي حكمًا عدلًا، وإمامًا مقسطًا، يدق الصليب، ويذبح الخنزير ويضع الجزية، ويترك الصدقة، فلا يُسعى على شاة ولا بعير وترفع الشحناء والتباغض، وتنزع حمة كل ذات حمة، حتى يُدخل الوليد يده في الحية فلا تضره، وتُفِرُ الوليدةُ الأسد فلا يضرها، ويكون الذئب في الغنم كأنه كلبها، وتُملأ الأرض من السِّلم كما يملأ الإناء من الماء، وتكون الكلمة واحدة فلا يعبد إلا الله، وتضع الحرب أوزارها وتكون الأرض كفاثور الفضة تنبت نباتها بعهد آدم، حتى يجتمع النفر على القطف من العنب فيشبعهم، ويجتمع النفر على الرمانة فتشبعهم»8(8) سنن ابن ماجه في الفتن (2 / 1360 ـ 1362) رقم الحديث 4077.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «طوبى لعيش بعد المسيح يؤذن للسماء في القطر، ويؤذن للأرض في النبات حتى لو بذرت حبك على الصفا لنبت، وحتى يمر الرجل على الأسد فلا يضره ويطأ على الحية فلا تضره، ولا تشاح، ولا تحاسد، ولا تباغض»9(9) الحديث أخرجه النقاش في «فوائد العراقيين» كما قال الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير وقال عن الحديث «صحيح» (2 / 728) رقم الحديث 3919 وكلا الحديثين السابقين لهما معاني واردة في الصحيح راجع صحيح مسلم في كتاب الإيمان (2 / 189ـ193) ..

الذئب حين رعى الغنم حقيقة من حقائق التمكين حين أقيم الدين

وسبب كل ذلك الرغد في العيش والبركة وزوال الأخطار حتى من الحيوانات، والتمكين من كل شئ في الأرض هو إقامة الدين في الأرض فقد أقام عيسى ابن مريم – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – دين الله في الأرض كلها ولم يبق منها بقعة إلا كانت على الإسلام، فانعدمت مساحة المعاصي على الأرض التي كانت تكدر العيش، وتقتل الطيور في أوكارها، فرجع ذلك التسخير الذي سخره الله للإنسان في كل شيء في الأرض من قبل، وهكذا يحصل دائمًا حين يقام الدين على مساحة أكبر من الأرض ولو لم تستوعب الأرض جميعًا فيحصل من التمكين وهناءة العيش وبركته قريبًا من هذا، والذئب حين رعى الغنم في عهد عمر بن عبد العزيز ليس ذلك بكذب ولا أساطير وإنما حقيقة من حقائق التمكين حين يُقام الدين، تشهد لها نصوص القرآن، وصحاح السنة، وسجلات التاريخ. فقد ذكر ابن سعد في الطبقات وأبو نعيم في الحلية عن مالك بن دينار قال: (لما ولي عمر بن عبد العزيز رحمه الله قالت رعاة الشاء في رؤوس الجبال: من هذا الخليقة الصالح الذي قام على الناس؟ قال: فقيل لهم: وما أعلمكم بذلك؟ قالوا إنه إذا قام خليفة صالح كفت الذئاب والأسد عن شائنا)10(10) وقد ساق هذه الحادثة بالسند الإمام الآجري في كتابه (أخبار أبي حفص عمر بن عبد العزيز)، وحكم محقق الكتاب على السند بالصحة. (أخبار عمر أبي حفص) تحقيق عبد الله العسيلان (50)..

وذكر ابن كثير بالإسناد عن حماد بن زيد عن موسى بن أعين الراعي – وكان يرعى الغنم لمحمد بن عيينة – قال: كانت الأسد والغنم والوحوش ترعى في خلافة عمر بن عبد العزيز في موضع واحد، فعرض ذات يوم لشاة منها ذئب، فقلت: إنا لله، ما أرى الرجل الصالح إلا قد هلك، قال: فحسبناه فوجدناه قد هلك في تلك الليلة11(11) البداية والنهاية لابن كثير (5 / 211) ، طبعة دار البيان للتراث، وأشار ابن كثير إلى أن هذا روي عن حماد من غير وجه، وأن له شاهدا آخر عن غير حماد..

الهوامش

(1) صحيح البخاري في الزكاة، باب «الصدقة قبل الرد» (2 / 222) .

(2) راجع سير أعلام النبلاء (3 / 164) .

(3) سير أعلام النبلاء (5 / 131) .

(4) راجع سير أعلام النبلاء للذهبي (5 / 125) .

(5) «ردة ولا أبا بكر لها» للندوي (45، 26،27) .

(6) رواه البخاري وأحمد، صحيح البخاري، المناقب، مناقب قريش (5 / 13) .

(7) رواه أحمد في المسند (6 / 176) رقم الحديث 4380

(8) سنن ابن ماجه في الفتن (2 / 1360 ـ 1362) رقم الحديث 4077

(9) الحديث أخرجه النقاش في «فوائد العراقيين» كما قال الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير وقال عن الحديث «صحيح» (2 / 728) رقم الحديث 3919 وكلا الحديثين السابقين لهما معاني واردة في الصحيح راجع صحيح مسلم في كتاب الإيمان (2 / 189ـ193) .

(10) وقد ساق هذه الحادثة بالسند الإمام الآجري في كتابه (أخبار أبي حفص عمر بن عبد العزيز)، وحكم محقق الكتاب على السند بالصحة. (أخبار عمر أبي حفص) تحقيق عبد الله العسيلان (50).

(11) البداية والنهاية لابن كثير (5 / 211) ، طبعة دار البيان للتراث، وأشار ابن كثير إلى أن هذا روي عن حماد من غير وجه، وأن له شاهدا آخر عن غير حماد.

المصدر

كتاب: “عوامل النصر والتمكين في دعوات المرسلين” أحمد بن حمدان الشهري، ص190-201.

اقرأ أيضا

الإسلام شريعة تحكم حياة الأمة

جريمة إقصاء الشريعة

وجوب تحكيم شرع الله ونبذ ما خالفه .. لابن باز

وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ .. (3) موجِبات حق التشريع

التعليقات غير متاحة