لا ينفرد عامل بالتأثير على الانسان، والجيش، والمجتمع، وتاريخ النصر والهزيمة؛ بل ثمة عوامل كثيرة. كما أن للرجال أقدارا تمثل أمرا مُحْكما يحدد ما افتُري من الروايات أو اشتبه من الوقائع.

تداخل العوامل

بعد معرفة مناهج التاريخ وتفسيره وتقييمه، واعتبار الوحيين أوثق المصادر توثيقا وتفسيرا، وذلك في (المقال الأول)، ثم بيان تأثير العقيدة الإسلامية في تفسير التاريخ الإسلامي، ومبدأ الايمان في اختيار وحركة الأوائل، وبيان أن لإرادة وجه الله تأثيرها العميق في تربية الأوائل ومستواهم. وأن هذا محدِد لقبول أو رفض الروايات الطاعنة في الأخيار الأوائل، وذلك في (المقال الثاني).

يوضح هنا أثر تداخل العوامل المؤثرة على النفس الإنسانية وعلى الجيوش والمجتمعات في انتصارها وهزيمتها، وكذلك معرفة مقادير الرجال ومنازل الأخيار ومحكمات تاريخهم الذي يجب أن يحاكَم اليه ما اشتبه من الحوادث فضلا عما افتُري من الروايات.

القاعدة الرابعة:

العوامل المؤثرة في حركة التاريخ

إن المنهج الإسلامي لدراسة التاريخ منهج شامل لكل الدوافع والقيم التي تصنع التاريخ، وهو غير واقف أمام حدود الواقع المادي المحدود الظاهر للعيان فقط بل إنه يتيح فرصة لرؤية بعيدة، يستطيع المؤرخ معها أن يقدم تقييماً حقيقياً وشاملاً أكثر التحاماً مع الواقع لأحداث التاريخ الإنساني.

وذلك لأنه يأخذ في الحسبان مدى أثر العوامل المادية والنفسية المحيطة بالإنسان، مع مراعاتها والاعتراف بها كافةً، دون تضخيم لبعضها أكثر من حجمه.

وقبل هذه العوامل ومعها وبعدها قدَر الله ـ جل وعلا ـ وأمره النافذ، فإنه لا راد لقضائه وأمره.

وهذا سر المفارقة بين المنهج الإسلامي وبقية المناهج الأخرى الوضعية التي تفسر التاريخ تفسيراً عرقياً أو جغرافياً أو اقتصادياً أو نفسياً، ولم تحسب حساباً لكافة العوامل المؤثرة في حركة التاريخ، وإنما اكتفى كل واحد منها بعامل وضخّمه، وفسر به تاريخ الإنسان كله.

إنه لا بد من ملاحظة كل العناصر الفاعلة في الحدث التاريخي من عوامل مادية ومعنوية، فالإنسان ذو أبعاد فسيحة وأغوار عميقة، وكل الظواهر التي تتصل به على درجة عالية من التعقيد في الأفكار والمبادئ والمواقف والعادات وفي الاجتماع والاقتصاد.

كل أولئك يتشكل ويتبلور نتيجة نسيج معقد من العوامل.

وإذا كان هذا هو الواقع، فإن تفسير أية ظاهرة إنسانية وتعليلها بعلّة مفردة غير صحيح ولا دقيق.

مثال في يوم بدر

ولنضرب مثالاً على ذلك بموقعة بدر الكبرى.. هل كان هناك سبب أو عامل واحد أدى إلى انتصار المسلمين..؟ أم يا تُرى تضافرت عدة عوامل ليتوِج بها المسلمون انتصاراتهم على أعدائهم الذين يفوقونهم عدداً وعدة..؟

مما لا شك فيه أن المتأمل في هذا الحدث الفاصل في تاريخ الإسلام يجد بعد الاستقراء والدراسة أن عدة أسباب ساهمت في انتصار المسلمين وهي:

أولا: العقيدة الراسخة

إذ كان للمسلمين هدف معين ومحدد وهو نشر الإسلام حتى يكون الدين كله لله، وتكون كلمة الله هي العليا.

ثانياً: المعنويات العالية

فقد كانت معنويات المسلمين في بدر عالية جداً نظراً لثقتهم الأكيدة بوعد الله ونصره.

ثالثاً: الشورى

وهو المبدأ الذي التزم به الرسول، صلى الله عليه وسلم، منذ خروجه إلى بدر.

رابعاً: القيادة الموحدة

فقد كان الرسول، صلى الله عليه وسلم، هو القائد العام في معركة بدر، وكان المسلمون يعملون يداً واحدة تحت قيادته، وكان انضباطهم مثالاً رائعاً للانضباط الحقيقي.

خامساً: التعبئة الجيدة

فقد طبق الرسول، صلى الله عليه وسلم، أثناء اقترابه من بدر تشكيلة لا تختلف عن التعبئة الحديثة في حرب الصحراء، حيث كان للمسلمين مقدمة وقسم أكبر ومؤخرة، كما استفاد النبي، عليه الصلاة والسلام، من دوريات الاستطلاع للحصول على المعلومات.

 سادساً: معرفة طبوغرافية أرض المعركة

حيث كان الرسول، صلى الله عليه وسلم، أشد حرصاً على دراسة أرض المعركة، والتعرف على ظاهراتها الطبيعية قبل أن يدفع قواته إليها، وبتعرف المسلمين على تضاريس أرض بدر سيطروا على موارد المياه ببدر وعطلوا الآبار في الجهة التي يفترض أن يقْدُم إليها المشركون.

وهكذا فإن انتصار المسلمين لا يرجع إلى سبب أو عامل واحد، بل أثّرت عدة عوامل إيمانية ونفسية وتنظيمية واستراتيجية وجغرافية في نتيجة المعركة لصالح المسلمين.

وفي الأفغان مثال

ولنعط مثالاً آخر؛ فلا يمكن أن يقال مثلاً: إن الشعب الأفغاني صمد في وجه المحتلين بسبب إيمانه، أو بسبب صعوبة تضاريس أرضه من جبال وكهوف أو بسبب رصيد الفطرة لديه، أو بسبب العون الخارجي، أو بسبب وجود قواعد خلفية له في بلد مجاور..

إنه لم ينفرد سبب واحد من هذه الأسباب بولادة ظاهرة الصمود، بل إنها جميعاً مع أسباب أخرى أسهمت في إيجاد وضع متميز يستمد تميزه من خصوصية شروطه وأسبابه.

إن إدراك مقومات النفس الإنسانية جميعها؛ روحيةً وفكريةً وجسديةً لا يتوفر في غير المنهج الإسلامي، لأن التصور الصحيح عن هذه القضايا المؤثرة والفاعلة في الحدث التاريخي لا يمكن معرفته إلا عن طريق الوحي المعصوم من الخطأ (الكتاب والسنة).

فبواسطة التلقي من الوحي يعرف المسلم هذه العوامل، ويعرف قدْر كل عامل وقيمته وتأثيره في النفس، والنسب الصحيحة للعلاقات بين تلك العوامل جميعاً لأن مصادر تلقيه من لدُن الله، جل وعلا، الحكيم الخبير الذي يعلم خبايا النفس الإنسانية ولا يغيب عن علمه مثقال ذرة في الأرض أو في السماء.

القاعدة الخامسة

العلم بمقادير الناس وأحوالهم ومنازلهم والتثبت فيما يقال عنهم

يقول الخليفة الراشد عثمان بن عفان، رضي الله عنه، في هذا الصدد:

«واحفظ لكلٍ منزلته، وأعطهم جميعاً بقسطهم من الحق، فإن المعرفة بالناس بها يصاب العدل» (1).

وقد قعّد ابن تيمية، رحمه الله، بواسع علمه وعميق فهمه قاعدة جليلة في الإفتاء في أي قضية يراد معرفة حكم الله فيها، وذلك في بداية فتواه الشهيرة عن التتار وحكم قتالهم، فقد ذكر أن الحكم على أي طائفة أو قوم يقوم على أصلين:

“أحدهما المعرفة بحالهم، والثاني معرفة حكم الله في أمثالهم، وهذان الأصلان يقومان على الحكم المنافي للجهل، إذ الكلام في الناس لا يجوز بغير علم وبصيرة”. (2)

وعلى هذا الأساس ينبغي التحري فيما يُروى عن الوقائع التي كانت بين أعيان الصدر الأول من الصحابة، رضي الله عنهم، فالمعرفة بحالهم تدل على “كمال إيمانهم وصدقهم وحسن سريرتهم وفعلهم للخيرات وتضحيتهم بالنفس والنفيس في سبيل الحق”.

كل ذلك يرفع منازلهم إلى درجات عالية مما يجعلهم جميعاً من لابَس الفتن منهم ومن لم يلابسها أهلاً للاقتداء بهم، وأهلاً للرواية، تُقبل أخبارهم في أعلى درجات القبول، وتوزَن أعمالهم بميزان الورع والإحسان، مما ينفي عنهم ما نُسب إليهم من أوصاف سيئة، هذا علاوة على بيان حكم الله فيهم، إذ تواترت النصوص الشرعية في تزكيتهم وتعديلهم.

فلا جدال في أن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ قدوة لكل مسلم فيما يتعلق بأمور الدين، ولا مجال للطعن في تدينهم وصحة عقيدتهم وسلامة أخلاقهم، لكن ذلك لا يمنع أن يقع منهم الخطأ، إذ ليسوا معصومين، ولذلك فإن ما وقع بينهم من خلافات سياسية هي من قبيل الأمور الاجتهادية التي لا تقدح في مكانتهم السامية، وإذا سجل التاريخ تلك الخلافات فلا ينبغي أن تحمل على محمل الانتقاص منهم.

الرجوع الى المحقَق لا الموهوم

وقد أمر الله، جل وعلا، المؤمنين بالرجوع إلى ما علموا من إيمان إخوانهم الذي يدفع السيئات، وأن يعتبروا هذا الأصل العظيم، ولا يعبؤوا بكلام المتربصين والمغرضين الذي يناقضه ويقدح فيه، فيحسنوا الظن بإخوانهم، بل يدحضوا ما يروج ضدهم من شائعات وافتراءات تمس كرامتهم، وتحط من أقدارهم.

يقول الله تعالى زجراً للمؤمنين عن مجاراة الشائعات التي يتقولها أهل السوء في إخوانهم المؤمنين: ﴿لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَٰذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ﴾ (النور:12) وقال تعالى: ﴿وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَٰذَا سُبْحَانَكَ هَٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ﴾ (النور:16).

وقد دلت الآيتان على قاعدة مهمة وهي:

“الرجوع إلى الأمر المعلوم المحقَق للخروج من الشبهات والتوهمات، وقد يعبَر عنها بأن الموهوم لا يدفع المعلوم، وأن المجهول لا يعارض المحقق”. (3)

وبناء على هذا لا بد من الرجوع إلى المصادر الأصلية الموثوقة لمعرفة الحقيقة، فلا يؤخذ من الكذابين والفاسقين وأصحاب الأهواء لأن فسقهم وهواهم يدفعهم إلى تصوير الأمر على خلاف حقيقته، وأن المرء المسلم مطالب شرعاً بالتثبت والتبيّن مما يسمع، لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ (الحجرات :6).

ولقول الرسول: «كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع» (4)، وقوله: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث» (5).

ولذلك كانت عناية علماء أهل السنة موجَّهة إلى بيان من يُحمل عنه العلم أو الخبر، ومن لا يؤخذ عنه كقول بعضهم في هذا الباب:

“باب النهي عن الرواية عن الضعفاء والاحتياط في تحملها” (6)، إذ أن تقدير الرجال لا يؤخذ إلا من العالم العارف الثقة البصير بأحوال المسلمين.

مقاييس مهمة

وهناك مجموعة من المقاييس ينبغي الأخذ بها في هذا الشأن، وهي:

* عدم إقحام الحكم على عقائد ومواقف الرجال بغير دليل في ثنايا سرد الأعمال، إذ أن الحكم على أقدار الناس يجب أن يكون قائماً على حسن الظن حتى يثبت خلاف ذلك.

* عدم تجاوز النقل الثابت إلى إيراد الظنون والفرضيات، ومن فضل الإسلام أن نهى عن ذلك، ولم يفعل هذا مؤرخ فاضل، ولم يقل أحد أن حسن الأدب هو السكوت عن الكذب، وإنما حسن الأدب هو رده وتنقية سيرة الصدر الأول منه، كما أن حسن الأدب يقتضي السكوت عن الظنون، والكف عن اقتفاء ما لا علم لنا به يقيناً.

وكثيراً ما تلحّ على المرء في هذا شهوة الاستنتاج ودعوى التحليل، وقد أمرَنا الشرع أن تكون شهادتنا يقينية لا استنتاجية فيما نشهد من حاضرنا، ففي الآية ﴿إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ (الزخرف:86)، فكيف بمن يشهد بالظن والهوى فيمن أدبر من القرون؟ !

* إن الإسلام له منهجه في الحكم على الرجال والأعمال، فهو يأمر بالشهادة بالقسط وعدم مسايرة الهوى في شنآن أو في محبة، ويأمر باتباع العلم لا الظن، وتمحيص الخبر والتثبت فيه؛ أن يصاب قوم بجهالة، وهذا في حق كل الناس، فكيف بخير القرون؟!

طبيعة المجتمعات

إن للمجتمعات الإنسانية عوامل متداخلة، والانسان لا يؤثر فيه عامل واحد، ومن الانصاف والعدل اعتبار تداخل الأسباب وتشابكها؛ سواء للنفس أو المجتمع، واعتبار مختلف الظروف.

ومن التزم قواعد الانصاف فلن ينساق خلف الطاعن في خير القرون ليشكك الناس في أصل دينهم ويطعن في نقلة هذا الدين.

إن المنهج العلمي الذي يلتزم العدل ويؤثر الحقيقة دائما، يجعل هناك الحيادية والانصاف ويقرّب الباحث من معرفة الحق ووضع يده على الحقيقة.

………………………………………………..

هوامش:

  1. الطبري : تاريخ الرسل، ج، ص279 . 
  2. ابن تيمية : مجموع الفتاوى، ج 28،ص510.
  3. عبدالرحمن السعدي : القواعد الحسان لتفسير القرآن، ص 195.
  4. أخرجه مسلم في الجامع الصحيح، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع، ج1،ص72.
  5. أخرجه البخاري في الجامع الصحيح، كتاب الأدب، ج7،ص288.
  6. انظر صحيح مسلم، ج1،ص76.

لقراءة الدراسة كاملة:

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة