ثمة منهج لدراسة التاريخ يُعنى بتوثيق الأحداث، ومنهج آخر لتفسيرها وتقويمها وإعطائها الحكم اللائق بها. والإسلام منهج يعطي قواعد الفهم الشاملة، والتفسير الحق لفهم الحدث وأخذ العبرة.

المقصود بدراسة التاريخ

يُقصد بدراسة التاريخ معرفة الروابط التي تربط الأحداث والوقائع المختلفة لتبيّن دوافعها ومنطلقاتها ونتائجها، واستخلاص السنن والعبر من خلالها.

ويعتبر تعريف ابن خلدون في هذا الصدد تعريفاً جيداً، لأنه نصّ على وجوب النظر في الأخبار وتحقيقها، كما أكد على النظر في العلل والأسباب.

ومن هذا المنطلق، فالتاريخ ليس مجرد سرد للحوادث فحسب، بل هو “تفسير” لتلك الحوادث و”تقويم” لها، ومن ثم أصبح التاريخ أحد الأسلحة التي تستخدم في مجال التوجيه وصياغة الأفكار ونشر المباديء وتأييدها، كما أنه أصبح يأخذ دوره في الصراع العقائدي بين الأمم، ولهذا لا بد من دراسته وفق منهج معين.

المنهج المطلوب لدراسة التاريخ

لكن يا ترى ما هو ذلك المنهج المطلوب؟

في الاصطلاح اللغوي يقال: “النهج”، و”المنهج”، و”المنهاج”، وكلها بمعنى واحد، وهي تعني”

 “الطريق الواضح”

وبمعنى آخر:

“السبيل الفكري والخطوات العملية التي يتبعها الباحث في مساره بقصد تحصيل العلم.”

أما في الاصطلاح التاريخي، فـ “المنهج” يعني في الدراسات التاريخية:

“القواعد والشروط التي يجب مراعاتها عند معالجة أي حدث تاريخي سواء أكان بالكتابة والتأليف أم بالدراسة والتعليم”.

ومن الملاحظ أن “المنهج” في الدراسات التاريخية عندما يطلق يراد به أمران:

  1. التوثيق وإثبات الحقائق.
  2. التفسير التاريخي، أي معرفة مصادر تفسير الحوادث والحكم عليها.

ويستنتج من ذلك أن المنهج قسمان:

“منهج التوثيق وإثبات الحقائق” و”منهج التفسير التاريخي”.

أما (القسم الأول) فيراد به دراسة سند الروايات التاريخية ومتنها؛ بُغية التثبت من النصوص وتمحيص الأخبار، وذلك بربط دراسة التاريخ الإسلامي إلى حد ما بما يعرف بـ “علم الجرح والتعديل”، وهو علم جليل يقوم على دراسة مستفيضة لأحوال الرواة والتحري عن ميولهم وصفاتهم وأخلاقهم وعقائدهم.

ومما لا شك فيه أن المصنفات في قواعد الرواية وفي علم الرجال يمكن الاستفادة منها في حقل التاريخ الإسلامي إلى حد ما، إذ تكشف النقاب عن قواعد التحديث وأحوال الرواة لتمييز القوي من الضعيف والصادق من الكاذب، وبذلك يُعرف لكل خبر قيمته، فتُستخرج الروايات الصحيحة والحسنة، وتُستبعد الأخبار الضعيفة والموضوعة وينبّه عليها، لاسيما وأن من أهداف الدراسات التاريخية إبراز الحقائق التي تعتبر هدفاً منشوداً يتوخاه كل باحث نزيه.

لكن سنقتصر في هذه الدراسة على القسم الثاني من المنهج المتعلق بـ “تفسير الحوادث”.

وذلك بذكر مجموعة من “القواعد والضوابط” التي يمكن من خلالها الحكم على الحوادث التاريخية، وتفسيرها تفسيراً يتماشى مع النظرة الإسلامية للكون والإنسان والحياة.

تاريخ دين وعقيدة

فالتاريخ الإسلامي هو “تاريخ دين وعقيدة” قبل أن يكون “تاريخ دول ومعارك ونظم سياسية”، لأن “العقيدة” هي التي أنشأت تلك الكيانات من الدول والمجتمعات بنظمها السياسية والإدارية والتعليمية والاقتصادية وغيرها.

ولأجل هذه الصفة، فإنه ينبغي دراسة التاريخ الإسلامي وفق التصور الصحيح والموازين الشرعية.

على أن خصوصية التاريخ الإسلامي تتجلى في كونه منهجاً يوضح دور الإنسان ومسؤوليته عن التغير الاجتماعي والتاريخي في إطار المشيئة الإلهية، لأن التاريخ البشري في المنظور الإسلامي هو:

“تحقيق المشيئة الربانية من خلال الفاعلية المتاحة للإنسان في الأرض بقدر الله، وبحسب سنن معينة يجري الله بها قدره في الحياة الدنيا”.

إن “المنهج الإسلامي لتفسير التاريخ” لا يخرج عن دائرة المعتقدات الإسلامية، كما أنه مبني على دوافع السلوك في المجتمع الإسلامي، مما جعل حركة التاريخ الإسلامي ذات طابع متميز عن حركة التاريخ العالمي لأثر الوحي الإلهي فيه.

ولهذا نذكر بعض القواعد التي تحكم التفسير الاسلامي للتاريخ..

القاعدة الأولى:

تقديم المصادر الشرعية

وذلك باعتماد المصادر الشرعية وتقديمها على كل مصدر فيما نصت عليه من أخبار وضوابط وأحكام.

ويرجع ذلك إلى اعتبارين اثنين:

الاعتبار الأول

لأنها أصدق من كل وثيقة تاريخية فيما ورد فيها من الأخبار، وذلك لصدق مصدرها وعلمه وهيمنته.

كما أنها وصلتنا بأوثق منهج علمي، حيث وصلنا القرآن الكريم بالتواتر الموجب للعلم القطعي، وصحيح السنة وصلنا بمنهج علمي دقيق حيث اتبع علماء الحديث والرواية أرقى منهج علمي وأوثقه في تدوين السنة.

الاعتبار الثاني

لِما تدل عليه من القوانين التاريخية والسنن الربانية والنظرة الشمولية لتاريخ البشرية كلها على مدار الزمان في الماضي والحاضر والمستقبل، مما يعطي الباحث سعة وشمولاً في النظرة التاريخية، وعمقاً في تحليل الأحداث ومقدرة على تشخيص الداء، ووصف الدواء.

إن هذا الكون بما فيه الإنسان هو خلق الله فلابد من الرجوع إلى الخالق لفهم هذا الخلق، وإذا رجعنا إلى الوحي المنزل من الخالق لهداية البشرية، نجد السنن واضحة والاتجاهات محددة.

ومن المعلوم أن الوحي “الكتاب والسنة” وضع لنا السنن “أي القوانين الطبيعية والاجتماعية المبثوثة في الكون والأنفس والمجتمعات” التي تسير في إطارها الأحداث، ويُحكم من خلالها الأمم والدول والأشخاص.

ومن خلال السنن الربانية في كتاب الله وسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم، نفهم التاريخ ونفسر أحداثه، ونعرف عوامل البناء والأمن والاستقرار والبقاء، وعوامل الهدم والخوف والسقوط والتدمير، وهذه السنن مرتبطة بالأمر والنهي والطاعة والمعصية، والإيمان والكفر، والتوحيد والشرك.

قال تعالى: ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ (فاطر: 43).

وقال – تعالى -: ﴿إنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ (الرعد: 11).

فقانون “تغير الحال” إلى “الأحسن” أو “الأسوأ” هو تابع لجهد الإنسان، وسلوكه وتصرفه.

إن القرآن والسنة يعطيان الباحث المفاهيم والمبادئ التي يمكن في ضوئها تفسير أحداث التاريخ والحكم عليها، هذا علاوة على ذكر ما سيؤول إليه حال الأمة الإسلامية وما يصيبها من التفرق، وما يكون فيها من حركات الإصلاح والتجديد، والإشارة إلى عدد من الأحداث والفتن، والموقف من بعضها، وقد اعتنى أهل السنة بجمعها ووضع أبواب لها في مصنفاتهم. (1)

قيمة المادة التاريخية في كتب السنة

ولئن كانت المادة التاريخية في كتب السنة ليست بالمقدار نفسه الموجود في المصادر التاريخية، إلا أن لها أهميتها لعدة اعتبارات منها:

  1. أن معظم مؤلفيها عاشوا في فترة مبكرة، وأغلبهم من رجالات القرن الثاني والثالث الهجري، مما يميز مصادرهم بأنها كانت متقدمة.
  2.  ثم إن المحدثين يتحرون الدقة في النقل، الأمر الذي يجعل الباحث يطمئن إلى رواياتهم أكثر من روايات الإخباريين.
  3.  على أن المحدث كان عند جمهور المسلمين أشرف موضوعاً، وأسمى منزلة من الإخباري، ويرجع ذلك إلى ضبط المحدث ودقته وتمحيصه للروايات التاريخية وتحريه في القول؛ بينما كان الإخباري مظنة للإغراب والتلفيق والاختلاق.

الدقة والشمولية

تميز الإسلام بمنهاجه الدقيق للإثبات الدقيق والتمييز بين الصدق والكذب، كما تميز بالقدرة على الفهم الشامل ومعرفة السياق، وبالتالي القدرة على أخذ العبرة والحذر فيما يأتي من الأحداث ومعرفة سنن التغيير، السلبي والإيجابي؛ لنجاة الأمة وإصلاح الناس والأخذ بأيديهم للنجاة.

………………………………………………

هوامش:

  1.     أفرد لها الإمام البخاري كتابا في الجامع الصحيح سماه كتاب الفتن وكذا مسلم في الجامع الصحيح كتاب الفتن وأشراط الساعة، وأبو داود في السنن الفتن والملاحم، وغيرهم.

لقراءة الدراسة كاملة:

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة