يحمل الكثير عودة الأمة على تصرف الغير ومبادأة الآخرين وتغيير يتنزل من السماء بلا مسؤولية فردية وحراكٍ مسؤول من كل شخص..

ولخطأ هذا المفهوم، نقدم هذين المقالين ليعالجا الدور الفردي والتضامني، كليهما، للإنسان المسلم الذي يجب أن يشعر بمسؤوليته تجاه الواقع، بتصرفه وعقيدته وموقفه الفردي، وفي تضامنه مع غيره للخروج بالأمة وبمجتمعاتنا من أزمتها الراهنة والعميقة..

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «بشر هذه الأمة بالسناء والدين والرفعة والتمكين في الأرض، فمن عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب».(1)

المستحيل الممكن!! والسؤال الكبير

هل لهذه الأمجاد التي قامت ثم تهاوت من عودة بعد غلبة أعداء المسلمين عليهم، وإحاطتهم بهم إحاطة السوار بالمعصم، مع ما عليه المسلمون اليوم من الضعف والتخلف وغيبة الوعي وتلوث المفاهيم وافتراق ديني ودنيوي، واختراقات شتى لعدوهم في مجتمعاتهم ومؤسساتهم، وتبعية يفرضها عدوهم عليهم، وهوة سحيقة من التخلف التقني والاقتصادي والاجتماعي والعسكري عليهم أن يجتازوها..

هل يمكن أن يتحقق ذلك، وهل سيتركهم عدوهم يفعلون ذلك لو أرادوه؟

جاء في دلائل النبوة للبيقهي(2)، عن دلالة صدق الوحي في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى* وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى* وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى﴾ [الضحى: 6-8].

عن موسى بن علي بن رباح قال سمعت أبي يقول: كنت عند مسلمة بن مخلد الأنصاري وهو يومئذ على مصر وعبد الله بن عمرو بن العاص جالساً معه فتمثل مسلمة ببيت من شعر أبي طالب فقال: لو أن أبا طالب رأى ما نحن فيه اليوم من نعمة الله وكرامته لعلم أن ابن أخيه سيد قد جاء بخير كثير.

فقال عبد بن عمرو: ويومئذ قد كان سيدًا كريمًا قد جاء بخير كثير، فقال مسلمة: ألم يقل الله عز وجل ﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى﴾ [الضحى: 6-8] ، وقال عبد الله بن عمرو: أما  اليتيم فقد كان يتيماً من أبويه، وأما العيلة فكل ما كان بأيدي العرب إلى القِلة.

ويروي البيهقي عن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: «رأيت ما هو مفتوح على أمتي بعدي كفرًا كفرًا ـ أي قرية قرية ـ فسرني فنزلت: ﴿وَالضُّحَى* وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى* مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى* وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى* وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾ [الضحى: 6-8]».

ويروي البيهقي أيضًا في نفس السياق عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ﴾ [الزخرف: 44]، قال: شرف لك ولقومك، وفي قوله: ﴿لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ﴾ [الأنبياء، الآية: 10]: فيه شرفكم.

هل لهذه الأمجاد التي قامت ثم تهاوت من عودة؟

هل يمكن ذلك مع ما نعيشه اليوم من ضعف وتخلف وغيبة الوعي وهيمنة الأعداء… أعداء الله وأعداء الرسول وأعداء المسلمين؟.. هل يمكن أن نحقق رفعة الأمة بعد انتكاسها؟.

الجواب: نعم.. وخلافـة راشـدة على منهـاج النبـوة.

الإنسانية كلها في أمس الحاجة إليها وليس المسلمون فقط.

إن أول الطريق… الطريق إلى التمكين في الدنيا والطريق إلى الجنة في الآخرة هــو أن يـدرك الفــرد المسلــم.. الفرد العادي.. وليس الزعماء والنشطاء.. مدى مسؤوليته هو بذاته أمام الله عز وجل عن انتكاسة هذه الأمة، ومدى مسئوليته عن رفعتها..

[لمعرفة المزيد: كيف انحرفت الأمة عن هويتها وافتقدت للتماسك الاجتماعي]

مفهوم فاسد أدى إلى انتكاسة هذه الأمة

إن المفهوم السائد الآن ـ خطأ شائعًا ـ أن الدين علاقة بين العبد وربه، وأن مسئولية الفرد هي عن نفسه فقط، وأنه غير مسئول مسئولية اجتماعية أو تضامنية مع المسلمين الآخرين، وعليه أن يبحث عن رزقه في أي مكان يجده ويعبد الله بالصلاة والصيام والحج منعزلاً عن كل ما يحيط به، وبمعزل عن كل ما يعج به العالم من أحداث، وألا يتمعّر وجهه لله تعالى قط، رغم هول ما يحدث فالشأن ليس شأنه هو… بل شأن الزعماء والرؤساء والنشطاء.. فهل الأمر كذلك؟

نقـول: لا.

إن هذا المفهوم السائد الشائع هو أقصى ما يتمناه أعداء الإسلام.

إن هذا المفهوم هو سبب انتكاسة الأمة. وتصحيح هذا المفهوم هو بداية الطريق لرفعة الأمة.

ولنرَ ما يقوله الإمام الشاطبي في ذلك عن التكاليف العينية والكفائية:

فأما المقاصد الأصلية، فهي التي لا حظ فيها للمكلف، وهي الضروريات المعتبرة في كل ملة، وإنما قلنا إنها لا حظ فيها للعبد من حيث هي ضرورية لأنها قيام بمصالح عامه مطلقة لا تختص بحال دون حال ولا بصورة دون صورة ولا بوقت دون وقت، ولكنها تنقسم إلى ضرورية عينية وإلى ضرورية كفائية.

التكاليف العينيـة والكفائيـة

فأما كونها عينية: فعلى كل مكلف في نفسه فهو مأمور بحفظ دينه اعتقادًا وعملاً، ويحفظ نفسه قيامًا بضرورية حياته، ويحفظ عقله حفظاً لمورد الخطاب من ربه إليه، ويحفظ نسله التفاتاً إلى بقاء عوضه في عمارة هذه الدار، ورعياً له عن وضعه في وضعية اختلاط الأنساب العاصفة بالرحمة على المخلوق من مائه، وبحفظ ماله استعانة على إقامة تلك الأوجه الأربعة.

ويدل على ذلك أنه لو فرض اختيار العبد خلاف هذه الأمور لحجر عليه ولحيل بينه وبين اختياره، فمن هنا صار فيها مسلوب الحظ محكوماً عليه في نفسه، وإن صار فيها حظ فمن جهة أخرى تابعة لهذا المقصد الأصلي.

وأما كونها كفائية: فمن حيث كانت منوطة بالغير أن يقوم بها على العموم في جميع المكلفين لتستقيم الأحوال العامة التي لا تقوم الخاصة إلا بها، إلا أن هذا القسم مكمل للأول، فهو لاحِقٌ به في كونه ضرورياً، إذ لا يقوم  العيني إلا بالكفائي.

وذلك أن الكفائي قيام بمصالح عامة لجميع الخلق، فالمأمور به من تلك الجهة مأمور بما لا يعود عليه من جهته تخصيص؛ لأنه لم يؤمر إذ ذاك بخاصة نفسه  فقط  وإلا صار عينياً.

بل بإقامة الوجود وحقيقته أنه خليفة الله في عباده على حسب قدرته وما هيئ له  من ذلك، فإن الفرد الواحد لا يقدر على إصلاح نفسه والقيام بجميع أهله فضلاً عن أن يقوم بقبيلة فضلاُ عن أن يقوم بمصالح أهل الأرض، فجعل الله الخلق خلائف في إقامة الضروريات العامة حتى قام الملك في الأرض».أ. هـ(3)

[للمزيد: كيف أخرج رسول الله للناس خير أمة .. الجزء الأول] 

دلالة نوعيْ التكليف

ومعنى هذا الكلام:

  • أن الخطاب بالكفائي متوجه إلى جميع المسلمين فردًا فردًا.
  • أن الفرض الكفائي أهم من العيني لأن العيني لا يقوم إلا بالكفائي.

القيام بالفرض الكفائي قيام لمصلحة عامة، فهم مطالبون بسدها على الجملة، فبعضهم هو قادر عليها مباشرة وذلك من كان أهلاً لها، والباقون: وإن لم يقدروا عليها مباشرة، قادرون على إقامة القادرين.

فالقادر مطلوب بإقامة الفرض وغير القادر مطلوب بتقديم وإعانة ذلك القادر، إذ لا يتوصل إلى قيام القادر إلا بالإقامة والإعانة من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ا.هـ(4)

وإن كان جماع الدين أصلين: (أن يُعبد اللهُ وحده، وأن يُعبد بما شرع على ألسنة رسله في كل وقت بما أمر به في ذلك الوقت)، فعبادة الله سبحانه وتعالى تكون بالتكليفات الشرعية وذلك على أربعة أنحاء:

  • تكليف عيني: عبادي أو عادي.
  • تكليف كفائي: عبادي أو عادي.

(العبادي) هو التعبدات التي تفتقر إلى نية التعبد، وهي حق خالص لله سبحانه وتعالى.

(والعادي) هو المعاملات بين العباد والعادات الراجعة إلى محاسن الشيم ومكارم الأخلاق، وهو راجع إلى حق الله وحق العبد، لا يفتقر إلى نية التعبد، ووجه العبادة فيه هو الرجوع إلى شرع الله وما أمر فيه والموالاة على هذا الشرع.

[اضغط لمعرفة: كيف أخرج رسول الله خير أمة .. الجزء الثاني]

فالتكليف العيني العبادي

كأداء الصلاة والصيام

والتكليف الكفائي العبادي

كإقام الصلاة.

الفرق بين أداء الصلاة، وإقام الصلاة

وإقام الصلاة غير أداء الصلاة، فأداء الصلاة لا يحتاج فيه الإنسان إلى معونة غيره فصار عينياً، ولكنه رغم ذلك يحتاج إلى الاجتماع مع غيره في الجُمع والجماعات.

أما إقام الصلاة فمسئولية تضامنية لا يستطيع الفرد القيام بها بمفرده ولا بد له من معونة غيره فيها.

فإقام الصلاة يقتضي: إتخاذ المساجد ووضع القراء والعلماء والمفتين لها والعناية بها، وإقام الصلاة يقتضي إجبار المكلفين على فعلها وقتال من تركها أو عند في تركها، و إقامة الحكام والقضاة والملوك وترتيب الأجناد لذلك، وكإيتاء الزكاة وسائر التكليفات الشرعية المتعلقة بحق الله الخالص.

[اضغط لمعرفة: كيف أخرج رسول الله خير أمة .. الجزء الثالث]

والتكليف العيني العادي والكفائي

مثل بر الوالدين، وصلة الرحم، ورعاية الجار، وإغاثة الملهوف، وإعانة الرجل على دابته، وإماطة الأذى عن الطريق، كل ذلك يفعله الإنسان بمفرده، دون حاجة إلى معونة غيره.

وأما إقامة الأحكام الشرعية من قطع يد السارق، وجلد أو رجم الزاني، وقتل القاتل، وقتال المحاربين المفسدين في الأرض والقضاء بين الناس بالعدل الذي أمر الله به في شرعه.

فكل ذلك لم يخاطب به الإمام أو الأمير أو القاضي أو القائد بمفرده وإنما خوطب به الذين آمنوا.

يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ﴾ [النور: 2] ، ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [المائدة، الآية: 38].

ويقول سبحانه: ﴿إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ* إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ﴾ [المائدة: 33-34].

ويقول ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ [البقرة: 178].

فالخطاب للجماعة ولا يمكن ذلك بمباشرة كل فرد في هذا التكليف، وإنما يكون بإقامة السلطة الشرعية التي تقوم بذلك، وإقامة هذه السلطة هو مسئولية تضامنية يحتاج فيها الإنسان إلى غيره ولا يمكن أن يقوم بها بمفرده.

يقول سبحانه وتعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ* إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ* وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [المائدة:54-56].

يقول ابن كثير في تفسيرها:

يقول تعالى مخبرًا عن قدرته العظيمة أنه من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته فإن الله يستبدل به من هو خير لها منه وأشد منعة وأقوم سبيلاً كما قال تعالى: ﴿وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ [محمد: 38].

وأقـول: ذكر الله سبحانه وتعالى « الفرد » في قوله: ﴿مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ﴾ أي: في نكوثه عن القيام بواجبة، وذكر «القوم» في الاستبدال وهم الجماعة وذلك دليل على أن النصرة بالجماعة من خلال جهد الفرد وقيامه بواجبه.

وللأمر مزيد بيان بإذن الله..

…………………………………

هوامش:

  1. [الجامع الصغير للسيوطي، عن (مسند الإمام أحمد، والبيهقي في شعب الإيمان وابن حبان في صحيحه، والمستدرك للحاكم، صحيح)].
  2. [الجزء السابع:62-64].
  3. [الموافقات، كتاب المقاصد الجزء الثاني، بتصريف يسير، ص 176].
  4. [الموافقات، الجزء الأول ( بتصريف ) ص 179].

مراجع:

  • تفسير ابن كثير.
  • دلائل النبوة للبيهقي.
  • الموافقات، للشاطبي.
  • الطريق الى الجنة، عبد المجيد الشاذلي.

لتحميل البحث كاملا على الرابط التالي:

 اقرأ أيضا:

  1.  الجزء الثاني من هنا 
  2.  الاسلام هوية تجمع الأمة 
  3. الاسلام شريعة تحكم حياة الأمة
  4. كيف أخرج رسول الله خير أمة؟ (3-3) دور القيم .. وأهمية التوازن

التعليقات غير متاحة