إن الإسلام عقيدة وشريعة، وشريعته هي الترجمة الواقعية لعقيدته. والشريعة هي الكتاب والسنة، وليس إرادة الأمة. ولا بد في الإسلام من توحيد المُشرِّع، ومتابعة المُبَلِّغ. ورفض منازعة الله في حق التشريع.

مقدمة

جاء الإسلام ـ ككل دين جاء من عند الله ـ عقيدة وشريعة، العقيدة ثابتة لا تتغير ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ..﴾، والشريعة في أسمى صورها وأكملها.. فآمن بالإسلام قوم فأصبحوا مسلمين، وأبى قوم فأصبحوا في كفر وجاهلية. وبمرور الزمن والبعد عن عهد النبوة، ومضيّ القرون المفضلة وفشوّ الجهل في الناس وانحسار كثير من مدّ الإسلام، أخذ مفهوم الإسلام في الانحسار حتى بات عند كثير من الناس لا يعدو النطق بـ “لا إله إلا الله”، وإن لم يعمل قائلها بمقتضاها.. وأصبح (مثقفونا) يتساءلون في استنكار: ما للإسلام والاقتصاد..؟! ما للإسلام والسياسة والحكم..؟! وأصبح الفرد من عامة المسلمين يقول: “لا إله إلا الله”، ثم لا يجد حرجاً أن يرى شريعة الله لم تعد هي الفيصل فيما يعرض له من مشاكل.

 الإسلام، وتوحيد المُشَرِّع

التشريع في الإسلام لا يكون إلا لله. ومن زعم لنفسه الحق في التشريع بغير سلطان من الله، فقد تجاوز حد العبودية، وتطاول إلى مقام الألوهية، وجعل نفسه ندّاً لله تعالى، فالمُشرّع هو الله وحده، ولا تشريع إلا ما شرعه سبحانه، قال تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ فالتشريع المطلق حق خالص لله وحده لا ينازعه في ذلك أحد كما قال تعالى: ﴿إنِ الحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ﴾ [يوسف: 40]، لذلك أوجبت الشريعة التحاكم إلى الشرع وجعلته شرط الإيمان، قال تعالى: ﴿فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ والرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ﴾ ، وقال سبحانه: ﴿ومَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلَى اللَّهِ﴾ [الشورى: 10].

“فالشرع المنزل من عند الله تعالى وهو الكتاب والسنة الذي بعث الله به رسوله، ليس لأحد من الخلق الخروج عنه، ولا يخرج عنه إلا كافر”.. (1الفرقان – ابن تيمية ص 65)

فلا إسلام لمن منح البشر اختصاص الربوبية والرسالة من حق “التشريع”، والخضوع والإذعان التام لغير الله ورسوله.. لأن معنى الإسلام هو الاستسلام لله ورسوله بالطاعة والخضوع للأوامر الصادرة منهما، ولا يصح إسلام من يتمرد على حكم الله ورسوله.

“فمعنى الإسلام: الاستسلام والطاعة لشريعة الله. ومعنى عدم الاستسلام لهذه الشريعة، واتخاذ شريعة غيرها في أي جزئية من جزئيات الحياة، هو رفض للاعتراف بألوهية الله سبحانه وسلطانه، سواء كان هذا الرفض باللسان، أو بالفعل دون القول”. (2في ظلال القرآن – سيد قطب ج 2 ص 889)

بل المسلم يتبع حكم الله في كل شأن من شؤون حياته..

“فالحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله”. (3اقتضاء الصراط المستقيم – ابن تيمية)

حكم قبول شرع غير الله

وقبول المسلم لشرع الله هو رفض لشرع غيره.. وقبوله لأي جزئية من جزئيات شرع غير الله هو رفض لشرع الله في هذه الجزئيات، وهذا يعني رفض شرع الله كما قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إلاَّ اللَّهَ ولا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ولا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 64].

“ومعنى لا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله: أي لا نطيع الأحبار فيما أحدثوا من التحريم والتحليل لأن كلا منهم (بعضنا).. بشر مثلنا، وهو نظير قوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ ورُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ﴾ معناه أنهم أنزلوهم منزلة ربهم في قبول تحريمهم وتحليلهم مما لم يحرمه الله ولم يحله الله”. (4راجع تفسير البيضاوي والقرطبي والنسفي وابن كثير للآيات)

وعلى هذا فالتحاكم إلى البشر عن رضى وطواعية هو خلع لربقة الإسلام من الأعناق. وقبول شريعة أي بشر وتقديمها على الكتاب والسنة هو الكفر بعينه؛ فالله هو المشرع وهو الحَكم، وكتابه هو المهيمن.. والناس ليس لهم مع القرآن والسنة سوى التنفيذ والتطبيق..

“وقد نفى الله سبحانه وتعالى الإيمان عن من لم يحكموا النبي، صلى الله عليه وسلم، فيما بينهم نفياً مؤكَداً مكرراً بتكرار أداة النفي وبالقسَم، قال تعالى: ﴿فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ [النساء 65].

وتأمل قوله عز وجل ﴿فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ فإن اسم الموصول (ما) مع صلته من صيغ العموم عند الأصوليين وغيرهم، وهو من ناحية الأجناس والأنواع، كما أنه من ناحية القَدْر فلا فرق بين نوع ونوع، كما أنه لا فرق بين القليل والكثير”. (5تحكيم القوانين – الشيخ محمد بن إبراهيم ص 650)

فقبول شرع الله كله، ورفض شرع سواه كله؛ هو الإسلام، وليس للإسلام حقيقة سواه:

“والرضا بالقضاء الديني الشرعي، واجب وهو أساس الإسلام وقاعدته، فيجب على العبد أن يكون راضياً بلا حرج ولا منازعة ولا مدافعة ولا معارضة ولا اعتراض، قال تعالى: ﴿فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾.

فالله عز وجل أقسم أنهم لا يؤمنون حتى يحكّموا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وحتى يرتفع الحرج من نفوسهم من حكمه، وحتى يسلّموا لحكمه تسليماً.

وهذه حقيقة الرضا بحكمه، فالتحكيم في مقام الإسلام، وانتفاء الحرج في مقام الإيمان، والتسليم في مقام الإحسان). (6مدارج السالكين – بن القيم ج 2 ص 192)

“وإذا كان يكفي لإثبات الإسلام أن يتحاكم الناس إلى شريعة الله وحكم رسوله، فإنه لا يكفي في هذا الإيمان هذا ما لم يصحبه الرضى النفسي والقبول القلبي، وإسلام القلب والجنان في اطمئنان..”. (7في ظلال القرآن – سيد قطب ج 5ص 130)

ولا يجتمع التحاكم إلى غير شريعة الله، أو رفض التحاكم إلى شريعة الله؛ لا يجتمع هذا أو ذاك مع الإسلام في قلب عبد بأي حال من الأحوال..

“ومن رد شيئاً من أوامر الله تعالى أو أوامر رسوله فهو خارج من الإسلام سواء رده من جهة الشك فيه، أو من جهة ترك القبول والامتناع عن التسليم”. (8أحكام القرآن للجصاص ج 3 ص)

فـ “قبول شرع الله سبحانه” يتحقق بعدم رد أمر الله عليه، وقبولُ شرع غيره يُعرف بعدم الرد، فإن مَنع من رفض ورد شريعة غير الله الإكراهُ، فلا بد من كره القلب، وهذا يعني عدم مظاهرة القائمين على شريعة غير الله، حاكماً كان أو حزباً أو طبقة.

خاتمة

إن المسلم يلتزم بمقتضى إسلامه أن يتبع حكم الله في كل شأن من شؤون حياته؛ قال تعالى: ﴿ومَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ ورَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾. هذه واحدة. والثانية أن المسلم مُلزَم بمتابعة الرسول فيما أمر واجتناب ما عنه نهى وزجر، قال تعالى: ﴿ومَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ومَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ وهذا أمر عام في الأمر والنهي، والحلال والحرام،

وكذلك في الحكم والاحتكام، قال تعالى: ﴿فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ [النساء:65]، فهذه الآية تجعل من أساسيات الإسلام؛ التحاكم إلى شريعة الله ومتابعة الرسول الله، صلى الله عليه وسلم، الذي بلغها عن الله.

إن المُشرّع هو الرحمن، وليس البرلمان..

إن الشريعة هي الكتاب والسنة، وليس إرادة الأمة..

إن الإسلام عقيدة وشريعة، وشريعته هي الترجمة الواقعية لعقيدته..

إن الإسلام لا بد فيه من توحيد المُشرِّع، ومتابعة المُبَلِّغ.

………………………….

هوامش:

  1. الفرقان – ابن تيمية ص 65.
  2. في ظلال القرآن – سيد قطب ج 2 ص 889.
  3. اقتضاء الصراط المستقيم ـ ابن تيمية.
  4. راجع تفسير البيضاوي والقرطبي والنسفي وابن كثير للآيات.
  5. تحكيم القوانين – الشيخ محمد بن إبراهيم ص 650.
  6. مدارج السالكين – بن القيم ج 2 ص 192.
  7. في ظلال القرآن – سيد قطب ج 5 ص 130.
  8. أحكام القرآن للجصاص ج 3 ص.

المصدر:

  • د. محمد محمد بدري، مجلة البيان العدد 51، 1412هـ

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة