لما كانت النفس محل المراجعة والمحاسبة؛ كان من العقل ومأخذ أولي الألباب أن يحاسبوها ويراجعوها. ولهذا فوائد لها في مسيرها الى الله وقدومها عليه.

مقدمة

إذا راجع الإنسان نفسه؛ وقف على مواطن ضعفها ووجوب إصلاحها، وعرف ما فيه من نعم أو حجة مقامة عليه؛ فميز بينها ولم يُستدرج على غفلة.

وليس من شيء أنفع من الوقوف على عيوب النفس؛ فإنه مبدأ الإصلاح وطلب الكمال.

ثمرات المحاسبة

في محاسبة النفس ومراقبتها منافع كثيرة من أبرزها

الثمرة الأولى: الإطلاع على عيوب النفس وآفاتها وتقصيرها

وهذا يفيد في أمرين:

الأول: تدارك النفس، وإصلاح عيوبها، والتوبة من تقصيرها قبل حلول الأجل.

الثاني: مقت النفس في ذات الله عز وجل والإزراء بها، وأنها هالكة لا محالة إن لم يرحمها الله عز وجل ويثبتها ويعينها، وهذا يُحدث في النفس انكسارًا ومسكنة لله عز وجل ، وينفي آفة العجب والغرور، وفي ذلك مصلحة عظيمة للعبد؛ فما دخل عبد على الله عز وجل وقرب من رحمته وعفوه إلا من باب الانكسار والذل، والتبرؤ من الحول والقوة.

وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:

“ومن لم يطلع على عيب نفسه لم يمكنه إزالته، فإذا اطلع على عيبها مقتها في ذات الله تعالى.

وقد روى الإمام أحمد عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: لا يَفْقَه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتًا.

وقال مُطَرِّف بن عبد الله: «لولا ما أعلم من نفسي لقَلَيْتُ الناس»، وقال أيوب السِّختياني: «إذا ذُكر الصالحون كنتُ عنهم بمعْزِل».

ولما احْتُضِرَ سفيان الثوري دخل عليه أبو الأشهب، وحمّاد بن سلمة، فقال له حماد: «يا أبا عبد الله، أليس قد أمنت مما كنت تخافه وتقدم على من ترجوه، وهو أرحم الراحمين؟ فقال: يا أبا سلمة، أتطمع لمثلي أن ينجو من النار؟ قال: إي والله، إني لأرجو لك ذلك».

وقال يونس بن عبيد: «إني لأجد مائة خصلة من خصال الخير، ما أعلم أن في نفسي منها واحدة»، وقال محمد بن واسع: لو كان للذنوب ريح ما قدر أحد يجلس إليّ»…

وذُكِرَ داود الطائي عند بعض الأمراء، فأثنوا عليه، فقال: لو يعلم الناس بعض ما نحن فيه ما ذلَّ لنا لسانٌ بذكر خيرٍ أبدًا.

فالنفس داعية إلى المهالك، معينة للأعداء، طامحة إلى كل قبيح، متبعة لكل سوء، فهي تجرى بطبعها في ميدان المخالفة.

فالنعمة التي لا خطر لها: الخروج من رقِّها؛ فإنها أعظم حجاب بين العبد وبين الله تعالى، وأعرَف الناس بها أشدهم إزراء عليها، ومقتًا لها.

ومقت النفس في ذات الله من صفات الصّدّيقين، ويدنو العبد به من الله تعالى في لحظة واحدة أضعاف أضعاف ما يدنو بالعمل”. (1«إغاثة اللهفان» (ص84-87) مختصرًا)

الثمرة الثانية: النظر في حق الله تعالى والاعتراف بالتقصير

وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله تعالى:

“فمن نظر في الحق الذي لربه عليه عَلِم عِلْم اليقين أنه غير مؤدٍّ له كما ينبغي، وأنه لا يسعه إلا العفو والمغفرة، وأنه إن أحيل على عمله هلك.

فهذا محل نظر أهل المعرفة بالله تعالى وبنفوسهم، وهذا الذي أيأسهم من أنفسهم، وعلق رجاءهم كله بعفو الله ورحمته.

وإذا تأملت حال أكثر الناس وجدتهم بضد ذلك؛ ينظرون في حقهم على الله، ولا ينظرون في حق الله عليهم، ومن هاهنا انقطعوا عن الله، وحُجبت قلوبهم عن معرفته ومحبته والشوق إلى لقائه والتنعم بذكره، وهذا غاية جهل الإنسان بربه ونفسه.

فمحاسبة النفس هي: نظر العبد في حق الله عليه أوَّلًا، ثم نظره هل قام به كما ينبغي ثانيًا؟

وأفضل الفكرِ الفكرُ في ذلك؛ فإنه يُسيِّرُ القلب إلى الله، ويطرحه بين يديه ذليلًا خاضعًا منكسرًا كسرًا فيه جبره، ومفتقرًا فقرًا فيه غناه، وذليلًا ذلًّا فيه عزه.

ولو عمل من الأعمال ما عساه أن يعمل، فإنه إذا فاته هذا، فالذي فاته من البر أفضل من الذي أتى…

ومن فوائد نظر العبد في حق الله عليه ألا يتركه يُدِلُّ بعمل أصلًا كائنًا ما كان، ومن أدَلَّ بعمله لم يصعد إلى الله تعالى”. (2«إغاثة اللهفان» (1/ 88-89))

ويقول في موطن آخر وهو يشرح قول الهروي في «منازل السائرين»:

“قال صاحب «المنازل»: «المحاسبة لها ثلاثة أركان: أحدها: أن تقايس بين نعمته وجنايتك».

يعني: تقايس بين ما مِنَ الله وما منك، فحينئذ يظهر لك التفاوت، وتعلم أنه ليس إلا عفوه ورحمته، أو الهلاك والعطَب.

وبهذه المقايسة تعلم أن الربَّ ربٌّ، والعبدَ عبدٌ، ويتبين لك حقيقة النفس وصفاتها، وعظمة جلال الربوبية، وتفرُّد الرب بالكمال والإفضال، وأن كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل، وأنت قبل هذه المقايسة جاهل بحقيقة نفسك، وبربوبية فاطرها وخالقها؛ فإذا قايست ظهر لك أنها منبع كل شر، وأساس كل نقص، وأن حَدَّها: “الجاهلة الظالمة”. (3يقصد بحدها: تعريفها، وهو إشارة الى قوله تعالى عن الإنسان ﴿إنه كان ظلوما جهولا﴾)

وأنه لولا فضل الله ورحمته بتزكيته لها ما زَكَتْ أبدًا، ولولا هُداه ما اهتدت، ولولا إرشاده وتوفيقه لما كان لها وصول إلى خير ألبتة، وأن حصول ذلك لها من بارئها وفاطرها، وتوقُّفه عليه كتوقف وجودها على إيجاده؛ فكما أنها ليس لها من ذاتها وجود، فكذلك ليس لها من ذاتها كمال الوجود، فليس لها من ذاتها إلا العدم ـ عدم الذات، وعدم الكمال ـ فهناك تقول حقًّا: «أبوء لك بنعمتك عليَّ وأبوء بذنبي». (4«مدارج السالكين» (1/ 170، 171))

التمييز بين النعم والاستدراج

ويقول في نفس الموطن:

“فكم من مُسْتَدْرَج بالنعم وهو لا يشعر، مفتون بثناء الجهال عليه، مغرور بقضاء الله حوائجه وستره عليه!

وأكثر الخلق عندهم أن هذه الثلاثة علامة السعادة والنجاح، ذلك مبلغهم من العلم.

فإذا كملت هذه الثلاثة فيه عرف حينئذ أن ما كان من نعم الله عليه يجمعه على الله فهو نعمة حقيقة، وما فرقه عنه وأخذه منه فهو البلاء في صورة النعمة، والمحنة في صورة المنحة.

فليحذر فإنما هو مستدرج. ويميز بذلك أيضًا بين المنة والحجة؛ فكم تلتبس إحداهما عليه بالأخرى..!

فإن العبد بين منة من الله عليه، وحجة منه عليه، ولا ينفك عنهما…

فكل علم صحبه عمل يرضي الله سبحانه فهو منة، وإلا فهو حجة، وكل قوة ظاهرة وباطنة صحبها تنفيذ لمرضاته وأوامره فهي منة، وإلا فهي حجة. وكل حال صحبه تأثير في نصرة دينه والدعوة إليه فهو منّة منه، وإلا فهو حجة.

وكل مالٍ اقترن به إنفاق في سبيل الله وطاعته لا لطلب الجزاء ولا الشكور فهو منة من الله عليه، وإلا فهو حجة.

وكل فراغ اقترن به اشتغال، بما يريد الرب من عبده فهو منة عليه، وإلا فهو حجة.

وكل قبول في الناس، وتعظيم ومحبة له، اتصل به خضوع للرب، وذل وانكسار، ومعرفة بعيب النفس والعمل، وبذل النصيحة للخلق فهو منة، وإلا فهو حجة.

وكل بصيرة وموعظة، وتذكير وتعريف من تعريفات الحق سبحانه إلى العبد، اتصل به عبرة ومزيد في العقل، ومعرفة في الإيمان فهي منة، وإلا فهي حجة.

وكل حال مع الله تعالى، أو مقام اتصل به السير إلى الله، وإيثار مراده على مراد العبد فهو منة من الله، وإن صحبه الوقوف عنده والرضا به، وإيثار مقتضاه من لذة النفس به وطمأنينتها إليه، وركونها إليه، فهو حجة من الله عليه.

فليتأمل العبد هذا الموضع العظيم الخطير، ويميز بين مواقع المنن والمحن، والحجج والنعم؛ فما أكثر ما يلتبس ذلك على خواص الناس وأرباب السلوك”. (5«مدارج السالكين» (1/ 172، 173) باختصار يسير)

كيف تتم المحاسبة للنفس..؟

الواجب على المسلم أن يكون محاسبًا لنفسه دائمًا قبل أن يقول قولًا، أو يعمل عملًا، وبعد أن يقول أو يعمل، هذا هو الأصل في المحاسبة: أن تكون مصاحبة للعبد ما دام حيًّا، وهذا من علامات توفيق الله عز وجل لعبده.

خاتمة

وقد ذكر ابن القيم أوقاتًا في اليوم أو الليلة ينبغي أن يحافظ المسلم على محاسبته لنفسه فيها.

يقول ابن القيم رحمه الله تعالى وهو يتحدث عن الأسباب المنجية من عذاب القبر:

“ومن أنفعها أن يجلس الرجل عندما يريد النوم لله ساعة يحاسب نفسه فيها على ما خسره وربحه في يومه، ثم يجدد له توبة نصوحًا بينه وبين الله، فينام على تلك التوبة، ويعزم على ألا يعاود الذنب إذا استيقظ، ويفعل هذا كل ليلة.

فإن مات من ليلته فعلى توبة، وإن استيقظ استيقظ مستقبلًا للعمل مسرورًا بتأخير أجله حتى يستقبل ربه، ويستدرك ما فاته.

وليس للعبد أنفع من هذه النومة..”. (6«الروح» (ص186)، ت: محمد سكر)

………………………………..

الهوامش:

  1. «إغاثة اللهفان» (ص84-87) مختصرًا.
  2. «إغاثة اللهفان» (1/ 88-89).
  3. يقصد بحدها: تعريفها، وهو إشارة الى قوله تعالى عن الإنسان ﴿إنه كان ظلوما جهولا﴾.
  4. «مدارج السالكين» (1/ 170، 171).
  5. «مدارج السالكين» (1/ 172، 173) باختصار يسير.
  6. «الروح» (ص186)، ت: محمد سكر.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة