في الأزمات والملمّات تظهر معادن النفوس وتُمتحن حقائق الإيمان. ويبرهن على وجود التقوى. وتجب فيها من المَرحمات ما تنقذ به نفوس وتحيا به قلوب.

مأساة اليمن

مرّت اليمن بعدة أزمات اقتصادية، كان أشدها ما أعقب حرب الخليج الأولى في بداية التسعينات؛ عندما أيّد “علي عبد الله صالح” ـ رئيس اليمن وقتها ـ غزو العراق للكويت؛ مما أدى إلى جملة عقوبات خليجية هوَت بالاقتصاد اليمني. وفي العقد الحالي وبتأثير “علي عبد الله صالح” ـ أيضا ـ تحالف مع الحوثيين ضد الشعب اليمني ومكّن لهم من السيطرة على العاصمة صنعاء وعامة شمال اليمن؛ فاندلعت حرب لم تخمد نيرانها إلى يومنا هذا…

وعادت الأزمة الاقتصادية بكل عنفوانها لتخيم على عموم الشعب اليمني محدود الدخل، رغم سعة الموارد اليمنية؛ فهبطت العملة هبوطا مروعا بتأثير الحرب، وبإهمال وتعالي من فرقاء الصراع في اليمن.

واقع الأزمة

وأيا كان الواقع، فقد ازداد انهيار الريال اليمني ـ الذي هو علامة عافية الاقتصاد ومرضه ـ وكلما ضعف الريال زاد التجار في أسعارهم حتى أصبح الغني المستور الحال فقيرا، وصار الفقير معدما..

وكانت حجة التجار أن البضائع مشتراة بالعملات الصعبة ولا بد من مزامنة ارتفاع هذه العملات مقابل الريال اليمني وإلا صار البيع بالخسارة.

وفي الأيام الأخيرة سارت أمور العملة اليمنية سيرا حسنا، واسترد الريال نحو (40) في المائة من قوته، وقد كان المتوقع من التجار مزامنة الأسعار كما هي عادتهم في حالة ارتفاع العملات الخارجية، واستبشر الناس خيرا كثيرا بقرب نزول الأسعار التي أثقلت كاهلهم..

ولكن طال انتظارهم كثيرا، والأسعار كما هي، وخزائن التجار تزداد امتلاءا، وبطون الفقراء تزداد خواءا.

والعجب أن مؤسسةً حكومية كمؤسسة النفط التابعة للدولة والتي كانت تزامن الارتفاع مثل سائر التجار فعلت الشيء نفسه، فأبت مزامنة الانخفاض، مما أعطى انطباع المؤامرة على الشعب لكسره وشغله بالبحث عن لقمة العيش، وثنيه عن التفكير في الانعتاق من سطوة المجرمين المتحكمين في مصادر الرزق..

نصائح الى التجار

ولذلك نوجه هذه الكلمات لإخواننا التجار والصرافين ونحوهم وفقهم الله تعالى لما يحبه ويرضاه:

إن التجارة لا تعني المكسب الفاحش الذي يقطع أعناق الفقراء؛ فإن ديننا دين الرحمة والتراحم؛ فمن رحم عباد الله يرحمه الله عز وجل؛ كما ثبت في الحديث: «الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء». (1رواه أبو داود (4943) وغيره، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3522))

ومن زرع في نفسه رقة القلب لذوي القربى وكل مسلم يصدق فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «… وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عیال…». (2رواه مسلم (2865) من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه)

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان هيّنا لينا قرببا حرمه الله على النار». (3رواه الحاكم (435) وغيره، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1745))

وقسوة القلوب سبب لفقدان رحمة الله عز وجل، فالجزاء من جنس العمل؛ ورفع الأسعار وعدم المبالاة بالفقير والضعيف من مظاهر هذه القسوة الموجِبة لغضب الله والحرمان من فضله عز وجل؛ فيجب على كل مسلم أن يشعر بأخيه ويساعده في ضيقه.

فإذا رأى ربنا تبارك وتعالى منا مسابقة لعون الفقراء ورحمتهم أعطانا من واسع فضله وجوده تبارك وتعالى.

ورحمة الفقراء من مقتضى السماحة في البيع التي دعا النبي صلى الله عليه وسلم لصاحبها؛ فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى». (4رواه البخاري (2076))

وليحذرِ التجار من أن يحشروا فجارا يوم القيامة؛ فعن البراء بن عازب قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البقيع فقال: «يا معشر التجار» حتى إذا اشرأبّوا قال: «إن التجار يحشرون يوم القيامة فجارا إلا من اتقی وبرّ وصدق». (5أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (4848)، وقال الألباني في السلسلة الصحيحة (1458): هذا إسناد جيد، وله شاهد عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن أبيه عن جده مرفوعا، أخرجه الترمذي (1210) وغيره)

وعن عبد الرحمن بن شبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن التجار لهم الفجار». قال: قيل: يا رسول الله، أو ليس قد أحل الله البيع؟ قال: «بلی، ولكنهم يتحدثون فيكْذبون ويحلفون ويأثمون». (6رواه أحمد (15530) وغيره، وصححه الألباني في الصحيحة (366))

فعلى من يعمل بالتجارة أن يتأمل في أحواله؛ ليتخلص من هذه الخصال الذميمة التي يقع فيها الكثير ممن كان همه المكسب وحده.

ولذلك حض التجار خاصة على الصدقة التكفير ما قد يشوب بيعهم؛ فعن قيس بن أبي غرزة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نسمي السماسرة فقال: «يا معشر التجار! إن الشيطان والإثم يحضران البيع فشوبوا بيعكم بالصدقة». (7رواه الترمذي (1208) وغيره، وصححه الألباني في صحيح الجامع (7973). وفي رواية: «… يحضره اللغو والحلف …» صححه الألباني في صحيح الجامع (7974))

والظن الجميل بمريدي وجه الله عز وجل من التجار أن يتصدقوا على الناس بخفض الأسعار حيث انخفضت العملات.

نصائح للمسؤولين

ونقول للمسؤولين؛ يجب على كل قادر أن يعمل على حماية الفقراء وعموم الضعفاء في المجتمع، فقد سعَّر عمر رضي الله عنه عند الضرورة؛ وعليه فيجوز وضع التسعيرات المناسبة خاصة في العملات والسلع الأساسية ـ من غير ظلمٍ للتجار وذلك لتحقيق العدل من جهة، والرحمة بالفقراء من جهة أخرى؛ فإطلاق حرية التجارة بالأسعار المرتفعة لا يتناسب مع وضع اليمن الطارئ في أيامنا هذه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

“.. ومن هنا يتبين أن السعر منه ما هو ظلم لا يجوز، ومنه ما هو عدل جائز. فإذا تضمن ظلمَ الناس وإكراهَهم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه؛ أو منْعَهم مما أباحه الله لهم: فهو حرام. وإذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراهه على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل؛ ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ زيادة على عوض المثل: فهو جائز؛ بل واجب…”. (8مجموع الفتاوی (28/ 76))

نصائح للفقراء والمحتاجين

ونقول للفقراء والمحتاجين؛ إن مواجهة الفقر الحقيقية لا تكون إلا بالاعتقاد الصحيح أن الرزق من الله تعالى فهو الرزاق ؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ [الذاريات: 58].

وبناء على ذلك فيجب على الناس ألا يتعلقوا إلا بالله عز وجل وحده لرفع ما بهم من مكوس وفاقة وغلاء، ثم عليهم بعد ذلك الأخذ بالأسباب المشروعة وبذل الجهد لرفع الفقر ومحاربته.

إن التنافس على الكسب الحرام والشح والجزع والهلع لا يرفع ما نزل بالمسلمين من بلايا؛ فعلى كل مسلم التوكل على الله عز وجل وتفويضه في الأمور كلها؛ قال تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ۖ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ [الزمر:36]. وقال عز وجل: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ ۚ وَكَفَىٰ بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا﴾ [الفرقان:58].

والآيات في ذلك كثيرة مستفيضة..

وكيف لا نتوكل على الله، والله تعالى يقول: ﴿وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ۚ كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ [هود:6]. ويقول عز وجل: ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ﴾ [الذاريات:22-23].

وعلينا بالدعاء برفع الضر فالله عز وجل هو القائل: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر:60].

والقائل: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ [البقرة:184].

من دعاء رسول الله

ومن الأدعية الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ عن علي رضي الله عنه أن مكاتبا جاءه فقال: إني قد عجزت عن كتابتي فأعني! قال: ألا أعلمك كلمات علَّمَنيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم لوكان عليك مثل جبل ثبير دينا أداه الله عنك؟ قال: قل: «اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك». (9رواه الترمذي (3563) وغيره، وحسنه الألباني)

ولا يفوتنا أن نذكر أن من أسباب الرزق الحلال: صلة الأرحام؛ فقد يظن الواحد أن أول ما يقطعه إذ نزلت به الحاجة والغلاء هو ما يصل به أهله وذوي رحمه؛ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَن سَرَّه أن يُبسَط له رزقه أو يُنسأ له في أثره فليصل رحمه». (10رواه البخاري (2067)، ومسلم (2557)، وهو متفق عليه من حديث أبي هريرة أيضا)

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه ـ أيضا ـ قال: كان أخوان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فكان أحدهما يأتي النبي، صلى الله عليه وسلم، والآخر يحترف، فشكا المحترف أخاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: «لعلك تُرزق به». (11رواه الترمذي (2345) وغيره، وصححه الألباني في الصحيحة (2749))

وعلى كل عبد ممن نزل بهم البلاء أن يحسن الظن بالله عز وجل، يقول الله تعالى في الحديث القدسي: «أنا عند ظن عبدي بي…». (12رواه البخاري (7405)، ومسلم (2675)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه)

مسؤولية القادرين

يجب على جميع من له قدرة، بمسؤولية أو مال، أن يسهم في تراحم المجتمع المسلم في اليمن، وتكافله، وإنقاذ اهله. وألا يكون المسلمون ضحية مجاعات يتوجه النصارى اليهم لاستغلالها وزرع الرِيَب في قلوب المسلمين اليها. وألا يكون المسلمون في صورة يتساءل عنها العالَم أين المسلمون وهم يتركون إخوانهم وجزءا من لحمتهم ونسجيهم.. ففي هذا التراحم رسائل كثيرة، يحتاجها المسلمون وينتظرها العالم.

رفع الله عز وجل ما نزل بالمسلمين، ونجاهم من كل سوء.

……………………..

الهوامش:

  1. رواه أبو داود (4943) وغيره، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3522).
  2. رواه مسلم (2865) من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه.
  3. رواه الحاكم (435) وغيره، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1745).
  4. رواه البخاري (2076).
  5. أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (4848)، وقال الألباني في السلسلة الصحيحة (1458): هذا إسناد جيد، وله شاهد عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن أبيه عن جده مرفوعا، أخرجه الترمذي (1210) وغيره.
  6. رواه أحمد (15530) وغيره، وصححه الألباني في الصحيحة (366).
  7. رواه الترمذي (1208) وغيره، وصححه الألباني في صحيح الجامع (7973). وفي رواية: «…يحضره اللغو والحلف…» صححه الألباني في صحيح الجامع (7974).
  8. مجموع الفتاوي (28/76).
  9. رواه الترمذي (3563) وغيره، وحسنه الألباني.
  10. رواه البخاري (2067)، ومسلم (2557)، وهو متفق عليه من حديث أبي هريرة أيضا.
  11. رواه الترمذي (2345) وغيره، وصححه الألباني في الصحيحة (2749).
  12. رواه البخاري (7405)، ومسلم (2675)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة