عندما يكون العالِم حرا لا يُخضع رقبته لغير الله؛ عندئذ يكون النصح السديد، الذي يصل الى قلوب الولاة وعموم الأمة. والحاكم عندما يكون مسلما لا منافقا يقبل النصح مهما غلظ عليه القول.

مقدمة

للعلماء دور؛ لا ينحصر في بيان الأحكام الفردية لكل مسلم في خاصة نفسه؛ فالحياة كلها خاضعة لشريعة الله، ولله في كل نازلة حكم، وله في كل عمل وقول، عام وخاص؛ حكمه العدل سبحانه.

وكما ينبغي النصح لآحاد المسلمين؛ فالحاكم المسلم الذي لا يكون منافقا أو ملحدا أو علمانيا أو مواليا للكافرين؛ يكون النصح له مثمرا ومزهرا، ومؤثّرا بالخير له وللمسلمين.

وهذا مثال مما نصح به القاضي الفاضل “أبو يوسف” صاحب الإمام أبي حنيفة، رحم الله الجميع.. وقد توجه بنصحه لأمير المؤمنين “هارون الرشيد” بناء على طلبه منه في وضع كتاب للخراج؛ وجد به هذا النصح الكريم، وبه علامات القوة والإخلاص والرغبة في التسديد والخوف من الآخرة.

هذا مثال ليعلم الناس كم هو الفارق بين الحال الإسلامي ـ ولو كان ملكا ـ وبين الحال العلماني والملحد والخائن الذي ابتليت به الأمة نحو قرن وأكثر من الزمان.

واجب الراعي .. نصيحة وتسديد للخير

يقول الإمام أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم القاضي رحمه الله: (1أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري، الكوفي، البغدادي صاحب الإمام أبي حنيفة، وتلميذه، وأول من نشر مذهبه، كان فقيهاً علآمة، من حفاظ الحديث، واسع العلم بالتفسير والمغازي وأيام العرب، ولي القضاء أيام المهدي والهادي والرشيد ومات في خلافته ببغداد وهو على القضاء. ومن كتبه المطبوعة: الخراج، والآثار “وهو مسند أبي حنيفة”)

يا أمير المؤمنين “هارون الرشيد”، إن الله ـ وله الحمد ـ قد قلدك أمراً عظيماً؛ ثوابه أعظم الثواب، وعقابه أشد العقاب. قلدك أمر هذه الأمة، فأصبحت وأمسيت وأنت تبني لخلق كثير قد استرعاكهم الله، وائتمنك عليهم، وابتلاك بهم، وولاك أمرهم، وليس يلبث البنيان إذا أسس على غير التقوى أن يأتيه الله من القواعد، فيهدمه على من بناه، وأعان عليه. فلا تضيعنّ ما قلدك الله من أمر هذه الأمة والرعية، فإن القوة في العمل بإذن الله.

*  لا تؤخر عمل اليوم إلى غدٍ، فإنك إذا فعلت ذلك أضعْتَ.

*  إن الأجل دون الأمل، فبادر الأجل بالعمل، فإنه لا عمل بعد الأجل.

*  إن الرعاة مؤدون إلى ربهم ما يؤدي الراعي إلى ربه. فأقم الحق فيما ولّاك الله وقّلدك ولو ساعة من نهار، فإن أسعد الرعاة عند الله يوم القيامة راعٍ سعدَتْ به رعيّته.

*  ولا تزغ؛ فتزيغ رعيتك.

*  وإياك والأمر بالهوى، والأخذ بالغضب.

*  وإذا نظرت إلى أمرين أحدهما للآخرة والآخر للدنيا، فاختر أمر الآخرة على أمر الدنيا، فإن الآخرة تبقى، والدنيا تفنى.

*  وكن من خشية الله على حذر، واجعل الناس عندك في أمر الله سواء القريب والبعيد، ولا تخف في الله لومة لائم. واحذر فإن الحذر بالقلب، وليس باللسان، واتق الله فإنما التقوى بالتوقي، ومن يتق الله يقيه.

حذار يوم القيامة في حقوق الرعية

*  واعمل لأجَلٍ مفضوض وسبيل مسلوك، وطريق مأخوذ، وعمل محفوظ، ومنهل مورود، فإن ذلك المورد الحق، والموقف الأعظم الذي تطير فيه القلوب، وتنقطع فيه الحجج لعزة ملِك قهرهم جبروتُه، والخلق له داخرون (2صاغرون) بين يديه، ينتظرون قضاءه، ويخافون عقوبته، وكأن ذلك قد كان.

فكفى بالحسرة والندامة يومئذ في ذلك الموقف العظيم لمن علم ولم يعمل، يوم تزِلّ فيه الأقدام، وتتغيّر فيه الألوان، ويطول فيه القيام، ويشتد فيه الحساب؛ يقول الله تبارك وتعالى في كتابه: ﴿وَإنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾، وقال تعالى: ﴿هَذَا يَوْمُ الفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ والأَوَّلِينَ﴾ وقال تعالى: ﴿إنَّ يَوْمَ الفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ﴾، وقال تعالى: ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ﴾، وقال: ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا﴾.

فيا لها من عثرة لا تقال، ويا لها من ندامة لا تنفع، إنما هو اختلاف الليل والنهار: يُبليان كل جديد، ويقرّبان كل بعيد، ويأتيان بكل موعود، ويجزي الله كل نفس بما كسبت إن الله سريع الحساب.

*  فاللهَ اللهَ؛ فإن البقاء قليل، والخطب خطير، والدنيا هالكة وهالك من فيها، والآخرة هي دار القرار. فلا تلْقَ الله غداً وأنت سالك سبيل المعتدين، فإن ديان يوم الدين إنما يدين العباد بأعمالهم، ولا يدينهم بمنازلهم.

وقد حذّرك الله فاحذر، فإنك لم تُخلق عبثاً، ولن تُترك سدى. وإن الله سائلك عما أنت فيه وعما عملت به، فانظر ما الجواب.

واعلم أنه لن تزول غداً قدما عبد بين يدي الله تبارك وتعالى إلا من بعد المسئلة؛ فقد قال، صلى الله عليه وسلم: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن علمه ما عمل فيه، وعن عمره فيم أفناه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه، وعن جسده فيم أبلاه». فأعْدِد ـ يا أمير المؤمنين ـ للمسئلة جوابها، فإن ما عملت فأثبتَّ فهو عليك غداً يُقرأ، فاذكر كشف قناعك فيما بينك وبين الله في مجمع الأشهاد.

حذار من تضييع حقوق الرعية

وإنى أوصيك ـ يا أمير المؤمنين ـ بحفظ ما استحفظك الله، ورعاية ما استرعاك الله، وأن لا تنظر في ذلك إلا إليه وله؛ فإنك إن لا تفعل تتوعر عليك سهول الهُدى، وتعمى في عينك وتتعفى رسومه، ويضيق عليك رَحْبُه، وتُنكر منه ما تعرف، وتعرف منه ما تنكر، فخاصم نفسك خصومة من يريد الفلج (3الفَلَج: الانتصار) لها لا عليها، فإن الراعي المضيّع يضمن ما هلك على يديه مما لو شاء رده عن أماكن الهلكة بإذن الله، وأورده أماكن الحياة والنجاة؛ فإذا ترك ذلك أضاعه، وإن تشاغل بغيره كانت الهلكة عليه أسرع، وبه أَضرّ. وإذا أصلح كان أسعد من هنالك بذلك، ووفّاه الله أضعاف ما وفّى له.

فاحذر أن تضيّع رعيتَك، فيستوفي ربها حقها منك، ويضيعك ـ بما أضعت ـ أجرك، وإنما يدعم البنيان قبل أن ينهدم.

وإنما لك من عملك ما عملت فيمن ولّاك الله أمره، وعليك ما ضيعت منه، فلاتنس القيام بأمر من ولاك الله أمره، فلست تُنسى، ولا تغفل عنهم وعما يصلحهم، فليس يُغفل عنك.

ولا يضيع حظك من هذه الدنيا في هذه الأيام والليالي كثرة تحريك لسانك في نفسك بذكر الله تسبيحاً وتهليلاً وتحميداً، والصلاة على رسوله، صلى الله عليه وسلم، نبي الرحمة، وإمام الهدى.

وإن الله بمَنّه ورحمته جعل ولاة الأمر خلفاء في أرضه، وجعل لهم نوراً يضيء للرعية ما أظلم عليهم من الأمور فيما بينهم، ويبين ما اشتبه من الحقوق عليهم. وإضاءة نور ولاة الأمر إقامة الحدود، ورد الحقوق إلى أهلها بالتثبت والأمر البين.

وإحياء السنن التي سنها القوم الصالحون أعظم موقعاً، فإن إحياء السنن من الخير الذي يحيا ولا يموت.

وجوْر الراعي هلاك للرعية، واستعانته بغير أهل الثقة والخير هلاك للعامة.

فاستتم ما أتاك الله ـ يا أمير المؤمنين ـ من النعم بحسن مجاورتها، والتمِس الزيادة فيها بالشكر عليها، فإن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه العزيز: ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ ولَئِن كَفَرْتُمْ إنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾.

وليس شيء أحب إلى الله من الإصلاح، ولا أبغض إليه من الفساد، والعمل بالمعاصي كفر بالنعم، وقلّ من كفر من قوم قط النعمة ثم لم يفزعوا إلى التوبة إلا سُلبوا عِزّهم، وسلط الله عليهم عدوهم. وإنى أسأل الله ـ يا أمير المؤمنين ـ الذي منَّ عليك بمعرفته فيما أولاك، أن لا يكلك في شيء من أمرك إلى نفسك، وأن يتولى منك ما تولى من أوليائه وأحبائه، فإنه وليّ ذلك والمرغوب إليه فيه.

يقول أبو يوسف استكمالا لحقوق الراعي والرعية:

وقد كتبت لك ما أمرت به، وشرحته لك، وبينته، فتفقهْه، وتدبرْه، وردِّد قراءته حتى تحفظه، فإني قد اجتهدت لك في ذلك ولم آلُك والمسلمين نصحاً، ابتغاء وجه الله وثوابه وخوف عقابه.

وإني لأرجو ـ إن عملت بما فيه من البيان ـ أن يوفر الله خراجك من غير ظلم مسلم ولا معاهد، ويُصلح لك رعيتك؛ فإن صلاحهم بإقامة الحدود عليهم، ورفع الظلم عنهم، والتظالم فيما اشتبه من الحقوق عليهم.

وكتبت لك أحاديث حسنة، فيها ترغيب وتحضيض على ما سألت عنه، مما تريد العمل به إن شاء الله. فوفقك الله لما يرضيه عنك، وأصلح بك، وعلى يديك”. ا.هـ

خاتمة

هذه مواعظ عالِم صادق المأخذ لدينه، لحاكم مسلم ليس بمنافق ولا زنديق، ولا مواليا للكافرين، ولا علمانيا يتنكر للشرع، ولا موضوعا من قبل الصليبيين والصهاينة على صدر الأمة بالمكر والخداع والحديد والدم.

هنا تجد الأمور طبيعية والموعظة تأخذ مجراها ويتلقاها الخليفة أو الحاكم المسلم بمأخذ الجد، ولا يتنكر لها أو يستهجنها بل يراها طبيعية وواجبة على العالم أن يلقيها اليه، وواجب عليه أن يتلقاها بالقبول.

إن قارنت فسترى المقارنة كبيرة، وذلك لبُعد المسافة واختلاف المواقع ونفاذ العدو واختراق الأمة في أدمغتها الموجِهة وسلطانها الحاكم؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله رب العالمين.

…………………………………

هوامش:

  1. أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري، الكوفي، البغدادي صاحب الإمام أبي حنيفة، وتلميذه، وأول من نشر مذهبه، كان فقيهاً علآمة، من حفاظ الحديث، واسع العلم بالتفسير والمغازي وأيام العرب، ولي القضاء أيام المهدي والهادي والرشيد ومات في خلافته ببغداد وهو على القضاء. ومن كتبه المطبوعة: الخراج، والآثار (وهو مسند أبي حنيفة)
  2. صاغرون.
  3. الفَلَج: الانتصار.

المصدر:

  • مقدمة كتاب الخراج لأبي يوسف.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة