للإسلام أصل عظيم تتفرع منه تشريعاته وتوجيهاته. وهو أصل عظيم يناقض أصول الشرك التشريعية اليوم من إلحاد لوثنية لكتابية محرفة لعلمانية سائدة.

قاعدة التلقي

يقول الله سبحانه ﴿وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾. [الحشر: 7]

هذه هي قاعدة تلقي الشريعة من مصدر واحد.. فهي كذلك تمثل النظرية الدستورية الإسلامية. فسلطان القانون في الإسلام مستمد من أن هذا التشريع جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم قرآنًا أو سنة. والأمة كلها والإمام معها لا تملك أن تخالف عما جاء به الرسول؛ فإذا شرعت ما يخالفه لم يكن لتشريعها هذا سلطان، لأنه فقد السند الأول الذي يستمد منه السلطان.

وهذه النظرية تخالف جميع النظريات البشرية الوضعية، بما فيها تلك التي تجعل الأمة مصدر السلطات، بمعنى أن للأمة أن تشرع لنفسها ما تشاء، وكل ما تشرعه فهو ذو سلطان. فمصدر السلطات في الإسلام هو شرع الله الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. والأمة تقوم على هذه الشريعة وتحرسها وتنفذها. والإمام نائب عن الأمة في هذا.

وفي هذا تنحصر حقوق الأمة فليس لها أن تخالف عما أتاها الرسول في أي تشريع. فأما حين لا توجد نصوص فيما جاء به الرسول بخصوص أمر يعرض للأمة فسبيلها أن تشرع له بما لا يخالف أصلاً من أصول ما جاء به الرسول. وهذا لا ينقض تلك النظرية. إنما هو فرع عنها. فالمرجع في أي تشريع هو أن يتبع ما جاء به الرسول إن كان هناك نص، وألا يخالف أصلاً من أصوله فيما لا نص فيه.

وتنحصر سلطة الأمة ـ والإمام نائب عنها ـ في هذه الحدود.. وهو نظام فريد لا يماثله نظام آخر مما عرفته البشرية من نظم وضعية. وهو نظام يربط التشريع للناس بناموس الكون كله، وينسق بين ناموس الكون الذي وضعه الله له، والقانون الذي يحكم البشر وهو من الله كي لا يصطدم قانون البشر بناموس الكون، فيشقى الإنسان أو يتحطم أو تذهب جهوده أدراج الرياح.

أخص خصائص الألوهية

إن هذا الدين يقرر أن التحليل والتحريم هو من شأن الله وحده. لأنهما أخص خصائص الألوهية، فلا تحريم ولا تحليل بغير سلطان من الله. فالله، وحده، هو الذي يحلل للناس ما يحل، ويحرم على الناس ما يحرم وليس لأحد غيره أن يشرع في هذا وذاك، وليس لأحد أن يدعي هذا الحق؛ لأن هذا مرادف تمامًا لدعوى الألوهية؛ ومن ثم فإن الجاهلية تحرم أو تحلل، فيصدر هذا التحريم والتحليل عنها باطلاً بطلانًا أصليًا. غير قابل للتصحيح، لأنه لا وجود له منذ الابتداء. فإذا جاء الإسلام إلى ما أحلت الجاهلية أو حرّمَت فهو يحكم ابتداء ببطلانه كلية بطلانًا أصليًا، ويعتبره كله غير قائم بما أنه صادر من جهة لا تملك إصداره ـ لأنها ليست إلهًا ـ ثم يأخذ هو في إنشاء أحكامه إنشاءًا. فإذا أحل شيئًا كانت الجاهلية تحله أو حرم شيئًا كانت الجاهلية تحرمه، فهو ينشئ هذه الأحكام ابتداء، ولا يُعتبر هذا منه اعتمادًا لأحكام الجاهلية التي أبطلها كلها، لأنها هي باطلة ولم تصدر من الجهة التي تملك وحدها إصدار هذه الأحكام.. وهي الله.

هذه هي النظرية الإسلامية في الحل والحرمة تشمل كل شيء في الحياة الإنسانية ولا يخرج عن نطاقها شيء في هذه الحياة.. إنه ليس لأحد غير الله أن يحل أو يحرم في نكاح، ولا في طعام، ولا في شراب، ولا في لباس، ولا في حركة، ولا في عمل، ولا في تعامل، ولا في ارتباط، ولا في عرف، ولا في وضع إلا أن يستمد سلطانه من الله حسب شريعة الله.

وكل جهة أخرى تحرم أو تحلل شيئًا من حياة البشر ـ كبُر أم صغُر ـ تصدر أحكامها باطلة بطلانًا أصليًا غير قابلة للتصحيح المستأنف، وليس تجيء هذه الأحكام في الشريعة الإسلامية تصحيحًا واعتمادًا لما كان منها في الجاهلية، إنما هو إنشاء لهذه الأحكام مستندًا إلى المصدر الذي يملك إنشاء الأحكام.

وهكذا أنشأ الإسلام أحكامه في الحل والحرمة، وهكذا أقام الإسلام أوضاعه وأنظمته. وهكذا نظَّم الإسلام شعائره وتقاليده مستندًا في إنشائها إلى سلطانه الخاص.

أصل مكرر ومقرر

لقد عني الإسلام بتقرير هذه النظرية، وكرر الجدل مع الجاهليين في كل ما حرموه وما حللوه.. عُني بتقرير المبدأ فكان يسأل في استنكار: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ﴾..؟ [الأعراف: 32]. ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُم﴾ [الأنعام: 151] .. ﴿قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ﴾ [الأنعام: 145].. الخ.

وكان يردهم بهذه الاستنكارات إلى ذلك المبدأ الأساسي؛ وهو أن الذي يملك حق التحريم والتحليل هو الله وحده. وليس ذلك لأحد من البشر.. لا فرد ولا طبقة ولا أمة ولا الناس أجمعين.. إلا بسلطان من الله وفق شريعة الله.. والتحليل والتحريم ـ أي الحظر والإباحة ـ هو الشريعة.. هو الدين.. فإذا كان الذي  يحلل هو الله، فالناس إذن في دين الله. وإن كان الذي يحرم أو يحلل أحدًا غير الله فالناس إذن يدينون لهذا الأحد. وهم إذن في دينه لا في دين الله.

والمسألة على هذا الوضع هي مسألة الألوهية وخصائصها. وهي مسألة الدين ومفهومه. وهي مسألة الإيمان وحدوده. فلينظر المسلمون في أنحاء الأرض أين هم من هذا الأمر..؟ أين هم من هذا الدين..؟ وأين هم من الإسلام وإن كانوا ما يزالون يُصرون على ادعائهم للإسلام..!!!

إن التشريعات والتوجيهات في منهج الله إنما تنبثق كلها من أصل واحد، وترتكز على ركيزة واحدة. إنها تنبثق من العقيدة في الله وترتكز على التوحيد المطلق سَمْت هذه العقيدة؛ ومن ثم يتصل بعضها ببعض، ويتناسق بعضها مع بعض، ويصعب فصل جزئية منها عن جزئية، وتصبح دراسة أي منها ناقصة بدون الرجوع إلى أصلها الكبير الذي تلتقي عنده. ويصبح العمل ببعضها دون البعض الآخر غير واف بتحقيق صفة الإسلام كما أنه غير واف بتحقيق ثمار المنهج الإسلامي في الحياة.

العقيدة منبع التصورات والتشريعات

من العقيدة في الله تنبع كل التصورات الأساسية للعلاقات الكونية الحيوية والإنسانية؛ تلك التصورات التي تقوم عليها المناهج الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية والعالمية، والتي تؤثر في علاقات الناس بعضهم ببعض في كل مجال النشاط الإنساني في الأرض، والتي تكيف ضمير الفرد وواقع المجتمع، والتي تجعل المعاملات عبادات بما فيها من إتباع لمنهج الله ومراقبة لله ـ والعبادات قاعدة للمعاملات بما فيها من تطهير للضمير والسلوك ـ والتي تجعل الحياة في النهاية وحدة متماسكة تنبثق من المنهج الرباني، وتتلقى منه وحده دون سواه وتجعل مردها في الدنيا والآخرة إلى الله.

هذه هي السمة الأساسية في العقيدة الإسلامية وفي المنهج الإسلامي. إن قضية التشريع هي قضية ألوهية.. الله هو الذي يحرم ويحلل، والله هو الذي يحظُر ويبيح، والله هو الذي ينهى ويأمر.. ثم تتساوى المسائل كلها عند هذه القاعدة كبيرها وصغيرها. فشؤون الحياة الإنسانية بجملتها يجب أن ترد إلى هذه القاعدة دون سواها والذي يدعي حق التشريع أو يزاوله فإنما يدعي حق الألوهية أو يزاوله. وليس هذا الحق لأحد إلا لله؛ وإلا فهو الاعتداء على حق الله وسلطانه وألوهيته. والله لا يحب المعتدين.

والذي يستمد في شيء من هذا كله من عرف الناس ومقولاتهم ومصطلحاتهم فإنه يعدل عما أنزل الله إلى رسوله. ويخرج بهذا العدول عن الإيمان بالله. ويخرج بهذا العدول من هذا الدين..

إن القرآن يعالج قضية التشريع فيجعلها هي قضية الألوهية وقضية الإيمان، وقضية الدين.. إن الإيمان معناه ومقتضاه الاعتراف بالألوهية؛ ألوهية الله وحده، والاعتراف له ـ سبحانه ـ بالحاكمية.

إن مقتضى الإيمان ألا يزاول البشر ـ وهم عبيد الله ـ خصائص الألوهية التي يتفرد بها الله. فليس للبشر أن يحرموا ما أحل الله لهم وليس لهم أن يُحلوا ما حرم الله.

شيع الجاهلية المعاصرة

وحين ننظر إلى وجه الأرض اليوم ـ في ضوء هذه التقريرات الحاسمة ـ فإنها الجاهلية والشرك ـ ولا شيء غير الجاهلية والشرك ـ إلا من عصم الله، فأنكر على الأرباب الأرضية ما تدعيه من خصائص الألوهية، ولم يقبل منها شرعًا ولا حكمًا.. إلا في حدود الإكراه.

إن البشرية تنقسم شيعًا كلها جاهلية.. شيعة ملحدة تنكر وجود الله أصلاً. وهم ملحدون؛ فأمْرُهم ظاهر لا يحتاج إلى بيان..!

وشيعة وثنية تعترف بوجود الله، ولكنها تشرك من دونه آلهة أخرى وأربابًا كثيرة؛ كما في الهند وأواسط إفريقية، وفي أجزاء متفرقة من العالم.

وشيعة “أهل الكتاب” من اليهود والنصارى. وهؤلاء أشركوا قديمًا بنسبة الولد إلى الله. كما أشركوا باتخاذ أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله لأنهم قبلوا منهم ادعاء حق الحاكمية وقبلوا منهم الشرائع. وإن كانوا لم يُصلّوا لهم ولم يسجدوا ولم يركعوا أصلاً. ثم هم اليوم يُقصُون حاكميته بجملتها من حياتهم ويقيمون لأنفسهم أنظمة يسمونها “الرأسمالية” و”الاشتراكية”.. وما إليها، ويقيمون لأنفسهم أوضاعًا للحكم يسمونها “الديموقراطية”.. “الديكتاتورية”.. وما إليها ويخْرُجون بذلك من قاعدة دين الله كله، إلى مثل جاهلية الإغريق والرومان وغيرهم في اصطناع أنظمة وأوضاع من عند أنفسهم.

وشيعة تسمى نفسها “مسلمة”! وهي تتبع مناهج أهل الكتاب هذه ـ حذو النعل بالنعل ـ خارجة من دين الله إلى دين العباد. فدين الله هو منهجه وشريعته ونظامه الذي يضعه للحياة وقانونه. ودين العباد هو منهجهم للحياة وشرعهم ونظامهم الذي يضعونه للحياة وقوانينهم.

لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين للبشرية، وانتكست البشرية إلى الجاهلية. شيعها جميعًا لا تتبع دين الله أصلاً.. وعاد هذا القرآن يواجه البشرية كما واجهها أول مرة يستهدف في المرة الأولى إدخالها في الإسلام ابتداء من ناحية العقيدة والتصور، ثم إدخالها في دين الله بعد ذلك من ناحية النظام والواقع.

“الجاهلية” حالة

إن الجاهلية حالة ووضع، وليست فترة تاريخية زمنية.. والجاهلية اليوم ضاربة أطنابها في كل أرجاء الأرض، وفي كل شيع المعتقدات والمذاهب والأنظمة والأوضاع. إنها تقوم ابتداء على قاعدة “حاكمية العباد للعباد” ورفض حاكمية الله المطلقة للعباد.

تقوم على أساس أن يكون “هوى الإنسان” في أية صورة من صوره هو الإله المتحكِّم. ورفض أن تكون “شريعة الله” هي القانون المحكم.. ثم  تختلف أشكالها ومظاهرها، وراياتها وشاراتها، وأسماؤها، وأوصافها، وشيعها ومذاهبها؛ غير أنها كلها تعود إلى هذه القاعدة المميزة المحدودة لطبيعتها وحقيقتها. وبهذا المقياس الأساسي يتضح أن وجه الأرض اليوم تغمره الجاهلية. وإن حياة البشرية اليوم تحكمها الجاهلية. وإن الإسلام اليوم متوقف عن الوجود. مجرد الوجود..!

………………………….

المصدر:

  • كتاب “معالم في طريق الدعوة من الظلال”، ص18-25، محمد عبد الهادي المصري.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة