للضرورة الشرعية تعريف، وضوابط. وللتعامل معها ضوابط شرعية وحدود لا ينبغي أن يتعداها امرؤ. وهي تعين على التزام الشريعة لا التفلت منها..!

مقدمة

تحت ستار “الضرورة”، وأنها تبيح المحرمات يدخل المعترضون على شريعة الله عز وجل، ليعطلوا بعض الأحكام الشرعية، ويعترضوا عليها بهذه القاعدة.

خطورة الشبهة واستعمالها

هذا وإن كانت القاعدة في أصلها صحيحة، إلا أن أهل الأهواء الذين في قلوبهم حرج مما شرعه الله عز وجل، يفتحون باب الضرورة على مصراعيه، دون الأخذ بضوابطها وشروطها الشرعية، إذ إن للضرورة حدودا وضوابط دقيقة وأحوالا معينة، قد حددها الشارع الحكيم.

ولكنهم لم يلتفتوا الى الحدود الشرعية للضرورة وضوابط ما تبيحه، فجلعوا هذه القاعدة مَركبا لاستباحة المحرمات وترك الواجبات، بل ولما هو أشد من هذا وأعظم وهو استباحة التقنين بدون شريعة الله، والنص على استباحة المحرمات والتحلل مما فرض الله بهذه الحجة.

فما هي حقيقة الضرورة الشرعية، وما ضوابطها..؟

حقيقة الضرورة الشريعة

يقول الدكتور الزحيلي:

“قال الجرجاني في تعريفاته: الضرورة مشتقة من الضرر، وهو النازل بما لا مدفع له، وللضرورة تعاریف متقاربة المعنى عند أسلافنا الفقهاء”. (1نظرية الضرورة الشرعية ص 66)

ثم ساق بعض هذه الأقوال، وخرج منها بمعنی شامل هو قوله:

“«الضرورة»: هي أن تطرأ على الإنسان حالة من الخطر أو المشقة الشديدة؛ بحيث يخاف حدوث ضرر أو أذى بالنفس أو بالعضو أو بالعرض أو بالعقل أو بالمال وتوابعها، ويتعين أو يباح عندئذ ارتکاب الحرام، أو ترك الواجب، أو تأخيره عن وقته دفعا للضرر في غالب ظنه ضمن قيود الشرع”. (2نظرية الضرورة الشرعية ص 67)

ولما كان مفهوم الضرورة وحدودها يختلف حسب العقول والأفهام، كان لا بد من الإحاطة بضوابطها، حتى لا يأتي من يدخل في الضرورة ما ليس منها: إما عن جهل، أو عن شهوة وهوى؛ فليس كل من ادعى وجود الضرورة يسلم له ادعاؤه أو يباح فعله.

يقول الشاطبي رحمه الله تعالى:

“وربما استجاز بعضهم في مواطن يدّعي فيها الضرورة وإلجاء الحاجة بناء على أن الضرورات تبيح المحظورات، فيأخذ عند ذلك بما يوافق الغرض”. (3الموافقات 4/ 145)

ضوابط الضرورة الشريعة والتعامل معها

من أهم هذه ضوابط معرفة الضرورة الشرعية، وضوابط التعامل معها، وما تبيحه، ما يلي:

أن تكون الضرورة قائمة لا منتظرة

وبعبارة أخرى؛ أن يحصل في الواقع خوف الهلاك أو التلف على النفس أو المال، وذلك بغلبة الظن حسب التجارب، أو يتحقق المرء من وجود خطر حقيقي على إحدى الضروريات الخمس التي صانتها جميع الديانات والشرائع السماوية؛ وهي الدين والنفس والعرض والعقل والمال؛ فيجوز حينئذ الأخذ بالأحكام الاستثنائية لدفع الخطر، ولو أدى ذلك إلى الوقوع في مفسدة ارتكاب الحرام أو ترك الواجب، عملا بقاعدة: «إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمها ضررا بارتكاب أخفهما». فإذا لم يخف الإنسان على شيء مما ذكر، لم يُبَح له مخالفة الحكم الأصلي العام من تحريم أو إيجاب.

تعين المخالفة طريقا للخروج من المشقة

أن يتعين على المضطر مخالفة الأوامر أو النواهي الشرعية، وألا يكون لدفع الضرر وسيلة أخرى من المباحات إلا المخالفة، بأن يوجد في مكان لا يجد فيه إلا ما يحرم تناوله، ولم يكن هناك شيء من المباحات يدفع به الضرر عن نفسه، حتى ولو كان الشيء مملوكا للغير. فلو وجد مثلا طعاما لدى آخر، فله أن يأخذه بقيمته، وعلى صاحب الطعام أن يبذله له.

أن تكون الضرورة ملجئة

أن يكون في حالة وجود المحظور مع غيره من المباحات، عذر يبيح الإقدام على الفعل الحرام، وبعبارة أوجز أن تكون الضرورة مُلجئة، بحيث يخشی تلف النفس والأعضاء، كما لو أكره إنسان على أكل الميتة بوعيد يخاف منه تلف نفسه، أو تلف بعض أعضائه، مع وجود الطيبات المباحات أمامه.

عدم مخالفة أصول الشريعة

ألا يخالف المضطر أصول الشريعة الإسلامية الأساسية من حفظ حقوق الآخرين، وتحقيق العدل، وأداء الأمانات، ودفع الضرر، والحفاظ حقيقة على مبدأ التدين وأصول العقيدة الإسلامية؛ فمثلا: لا يحل الزنا والقتل والكفر القلبي بأي حال، لأن هذه مفاسد في ذاتها.

الاقتصار على الحد الأدنى

أن يقتصر فيما يباح تناوله للضرورة في رأي جمهور الفقهاء على الحد الأدنى أو القدر اللازم لدفع الضرر، لأن إباحة الحرام ضرورة، والضرورة تقدر بقدرها.

قال الإمام أحمد: إن الضرورة المبيحة هي التي يخاف التلف بها إن ترك الأكل من الحرام، وذلك إذا كان المضطر يخشى على نفسه، سواء أكان من جوع، أو يخاف إن ترك الأكل من الميتة ونحوها، عجز عن المشي، وانقطع عن الرفقة، فهلك، أو يعجز عن الركوب فيهلك، ولا يتقيد ذلك بزمن مخصوص”. (4انظر: نظرية الضرورة الشرعية للزحيلي ص 79-72 باختصار وتصرف يسير)

ومما ينبغي التنبيه إليه؛ ضرورة النظر إلى هذه الضوابط مجتمعة، لأنه قد يتحقق في المسألة المراد بحثها ضابط، أو أكثر؛ فيظن أنها قد أصبحت ضرورة، وهي ليست كذلك، لتخلف ضابط أو أكثر.

وبالوصول إلى معرفة حقيقة الضرورة الشرعية وضوابها يسد الطريق على من يفتح الباب على مصراعيه؛ فيرخص لنفسه أو للناس ارتکاب بعض المحرمات، أو ترك بعض الواجبات والاعتراض على شريعة الله بحجة الضرورة، إما لأنه لم يفهم معنى الضرورة ولا ضوابطها، أو أنه مدرك معناها وضوابطها، ولكنه أتْبع نفسه هواها، ومزج هواه بشبهة الضرورة، ليؤصل ضعفه، ويلبس على الناس دينهم والعياذ بالله تعالى.

وإلا فما معنى قول من يقول: إن إدخال القنوات المفسدة في البيوت، وأن اختلاط الرجال بالنساء والخلوة بالأجنبية، هو من باب الضرورة..؟! مع أن الضرورة في واد، وهذه الممارسات في وادٍ آخر. وما معنى قول من يقول: إن التعامل بالربا وبعض صور البيوع المحرمة، والتأمين أصبح ضرورة..؟؟! ويعلم القائل بذلك أنها لا تمت للضرورة بصلة.

ألا فليتق اللهَ الذين يفتون لأنفسهم أو يفتون للناس بارتكاب المحرمات بحجة الضرورة من دون تحرٍّ للضرورة وضوابطها، وليعدّوا جوابا لسؤال الله عز وجل إياهم: (ماذا أجبتم المرسلين)..؟

التيسير سبب للطاعة

إن قاعدة “الضرورات تبيح المحظورات” هي من ميزات هذه الشريعة المباركة السمحة. وهي معينة على التزام الشريعة حيث لا يخرج المرء عنها في حالة الضرورة والاضطرار؛ بل يبقى منضبطا بها ملتزما أحامها لا يخرج عن مقتضى العبودية.

فمن رام أن يجعلها مبررا للانسلاخ من أحكام الله فقد ضاد اللهَ وناقض أحكامه ومقاصد شريعته.

…………………..

الهوامش:

  1. نظرية الضرورة الشرعية ص 66.
  2. نظرية الضرورة الشرعية ص 67.
  3. الموافقات 4/ 145.
  4. انظر: نظرية الضرورة الشرعية للزحيلي ص 79-72 باختصار وتصرف يسير.

المصدر:

  • فضيلة الشيخ/ عبد العزيز الجُليّل، كتاب “قال أسلمت لرب العالمين”، المجلد الثامن عشر:  ص150-155.

اقرأ أيضا:

  • المعترضون على شرع الله المتذرعون بالمقاصد
  • المعترضون على الشريعة بالسياسات الجائرة والأحكام الباطلة
  • المعترضون على الشريعة والاحتجاج بقواعد التيسير

التعليقات غير متاحة