ثمة ظلم لا يغفره الله، وظلم يستوفي الله للمظلوم حقه، وآخر يرضي عنه خصمة، وظلم تحصل فيه من المسامحة شيء عظيم. ومن فقه هذا أخذ حذره، ولم يأمن ولم يقنط.

مقدمة

انتشر في كتاب الله التحذير الشديد من الظلم، وارتبط به وعيد عظيم. ولكن الظلم ليس نمطا واحد، بل بعضه أشد من بعض؛ ما بين الحرمان من الجنة، وبين عقوبة مؤقتة، وبين عفو الله تعالى. وفهم الفروق مهم.

أقسام الظلم

يتفاوت الظلم من حيث شدته وعِظمه وشناعته، ومن حيث الجهة التي وقع عليها، مع أن مَن صدر منه الظلم هو في حقيقته ما ظلم إلا نفسه؛ لأنه أوبق نفسه بظلمه لها بالمعاصي ومظالم العباد.

وقد ورد عن النبي، صلى الله عليه وسلم، حديث اختلف العلماء في صحته؛ فمنهم من ضعفه ومنهم من صحّحه، لكنه يُستأنس به في هذا المجال وبخاصة أنه صحيح المعنى، وقد اعتمده كثير من السلف في ذكر أنواع الظلم وصوره.

ونَصُّ الحديث: عن أنس قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «الظلم ثلاثة: فظلم لا يغفره الله، وظلم يغفره، وظلم لا يتركه؛ فأما الظلم الذي لا يغفره الله فالشرك، قال الله: ﴿إن الشرك لظلم عظيم﴾، وأما الظلم الذي يغفره فظلم العباد أنفسهم فيما بينهم وبين ربهم، وأما الظلم الذي لا يتركه الله فظلم العباد بعضهم بعضاً حتى يدين لبعضهم من بعض». (1البزار (3439) من حديث أنس، وقد جاء بنحوه عن غير واحد من الصحابة انظر: صحيح الجامع الصغير وزيادته، 2/ 734 (3961) وقد قال عنه الألباني: حديث حسن، وذكره أيضاً في الأحاديث الصحيحة، 1957 وانظر مجمع الزوائد (10/ 248))

وفي ضوء هذا الحديث وما ذكره العلماء حول أنواع الظلم؛ فإنه يمكن تقسيم الظلم إلى قسمين كبيرين يندرج تحتهما أنواع الظلم الثلاثة المذكورة في الحديث، وهذان القسمان هما:

1- الظلم الأكبر: وهو ظلم العبد نفسه بالكفر والإشراك بالله عز وجل.

2- الظلم الأصغر: وهو ما دون الشرك، وهو نوعان:

  • (أ) ظلم النفس بالمعاصي فيما بينها وبين الله عز وجل.
  • (ب) ظلم النفس بمظالم العباد والتعدي على حقوقهم.

الموقف من أنواع الظلم

والكلام الآن حول هذه الأنواع الثلاثة:

1- ظلم النفس بالظلم الأعظم؛ وهو الإشراك بالله عز وجل.

2- ظلم النفس بظلم العباد.

3- ظلم النفس بالمعاصي فيما بينها وبين ربها عز وجل.

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:

“والظلم عند الله عز وجل يوم القيامة له دواوين ثلاثة: ديوان لا يغفر الله منه شيئاً، وهو الشرك به؛ فإن الله لا يغفر أن يشرك به.

وديوان لا يترك الله تعالى منه شيئاً، وهو ظلم العباد بعضهم بعضاً؛ فإن الله تعالى يستوفيه كله.

وديوان لا يعبأ الله به، وهو ظلم العبد نفسه بينه وبين ربه عز وجل؛ فإن هذا الديوان أخف الدواوين وأسرعها محواً؛ فإنه يمحى بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية والمصائب المكفرة ونحو ذلك، بخلاف ديوان الشرك؛ فإنه لا يمحى إلا بالتوحيد، وديوان المظالم لا يمحى إلا بالخروج منها إلى أربابها واستحلالهم منها.

ولما كان الشرك أعظم الدواوين الثلاثة عند الله عز وجل حرّم الجنة على أهله، فلا تدخل الجنةَ نفسٌ مشركة، وإنما يدخلها أهل التوحيد؛ فإن التوحيد هو مفتاح بابها، فمن لم يكن معه مفتاح لم يُفتح له بابها، وكذلك إن أتى بمفتاح لا أسنان له لم يمكن الفتح به”. (2الوابل الصيب ص 33، ت: محمد عبد الرحمن عوض)

ويقول الشيخ السعدي، رحمه الله تعالى، عند قوله تعالى: ﴿فَأَيُّ الفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: 81-82]:

“قال الله تعالى فاصلاً بين الفريقين: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا﴾ أي: يخلطوا ﴿إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾ الأمن من المخاوف، والعذاب والشقاء، والهداية إلى الصراط المستقيم.

فإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بظلم مطلقاً، لا بشرك ولا بمعاصٍ؛ حصل لهم الأمن التام، والهداية التامة. وإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بالشرك وحده، ولكنهم يعملون السيئات؛ حصل لهم أصل الهداية، وأصل الأمن، وإن لم يحْصُل لهم كمالها. ومفهوم الآية الكريمة: أن الذين لم يحصل لهم الأمران، لم يحصل لهم هداية، ولا أمن بل حظهم الضلال والشقاء”. (3تفسير الكريم المنان (2/ 39))

الأمن والهداية؛ الحصة للحصة والكل للكل

يقول شيخ الإسلام:

“..فمن سلِم من أجناس الظلم الثلاثة كان له الأمن التام والاهتداء التام، ومن لم يَسلم من ظلمه نفسه كان له الأمن والاهتداء مطلقا؛ بمعنى أنه لا بد أن يدخل الجنة كما وعد بذلك في الآية الأخرى‏.‏ وقد هداه إلى الصراط المستقيم الذي تكون عاقبته فيه إلى الجنة، ويحصل له من نقص الأمن والاهتداء بحسب ما نقص من إيمانه بظلمه نفسه. وليس مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله إنما هو الشرك إن من لم يشرك الشرك الأكبر يكون له الأمن التام لاهتداء التام؛ فإن أحاديثه الكثيرة مع نصوص القرآن تُبين أن أهل الكبائر معرَّضون للخوف؛ لم يحصل لهم الأمن التام ولا الاهتداء التام الذي يكونون به مهتدين إلى الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، من غير عذابٍ يحصل لهم؛ بل معهم أصل الاهتداء إلى هذا الصراط ومعهم أصل نعمة الله عليهم ولابد لهم من دخول الجنة‏.‏

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما هو الشرك» إن أراد به الشرك الأكبر، فمقصوده إن من لم يكن من أهله فهو آمِن مما وُعد به المشركون من عذاب الدنيا والآخرة وهو مهتدٍ إلى ذلك. وإن كان مراده جنس الشرك، فيقال: ظلم العبد نفسه كبخله ـ لحب المال ـ ببعض الواجب هو شرك أصغر، وحبه ما يبغضه الله حتى يكون يقدِم هواه على محبة الله شرك أصغر، ونحو ذلك. فهذا صاحبه قد فاته من الأمن والاهتداء بحسبه. ولهذا كان السلف يُدخلون الذنوب في هذا الظلم بهذا الاعتبار”. (4الإيمان، ص79)

ويقول الإمام ابن عبد البر رحمه الله تعالى:

“وقد أتى الوعيد الشديد في الظالمين بما يجب أن يكون كل مَن فقهه عن قليل الظلم وكثيره منتهيا. وإن كان الظلم ينصرف على وجوه، بعضها أعظم من بعض، وأعظمها الشرك بالله عز وجل، قال الله عز وجل: ﴿إن الشرك لظلم عظيم﴾ [لقمان: 13] وقال: ﴿وقد خاب من حمل ظلما﴾ [طه: 111] أي خاب من رحمة الله تعالى، مِن بعضها أو مِن كثير منها على حسب ما ارتكب من الظلم والله يغفر لمن يشاء”. (5الاستذكار – ابن عبد البر 20/ 268-269)

خلاصة وخاتمة

أن من كان ظُلْمه من جنس الظلم الأعظم والذي هو الشرك بالله عز وجل والكفر به سبحانه، ومات منه بلا توبة؛ فقد خاب الخيبة الأبدية، وحُرم مغفرة الله عز وجل وجنته، ومأواه جهنم خالداً فيها وبئس مثوى الظالمين.

ومن كان ظُلْمه دون ذلك فإنه يَسلم من الخلود في النار بما معه من الإيمان. ولكن إن كان ظلمه هذا متعلقاً بحقوق العباد ومات دون أن يرد الحقوق إلى أهلها؛ فإن أمامه القصاص يوم القيامة بالحسنات والسيئات، وقد يتعرض بسبب ذلك للعذاب والتطهير.

وإن كان ظلمه لنفسه بمعاصي بينه وبين الله عز وجل ومات منها بلا توبة، فإن كانت من الصغائر فإنها تكفرها الصلاة والقيام والحج وغيرها، إذا اجتنبت الكبائر. وإن كانت من الكبائر فإن صاحبها تحت المشيئة إن شاء الله عاقبه بها، وإن شاء عفا عنه بنحو الأسباب التي ذكرها شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في مجموع الفتاوى (6ارجع لمعرفة هذه الأسباب إلى مجموع الفتاوى (7/487 501))، ومن ذا الذي يقطع بمغفرة الله عز وجل..؟ ومن ذا الذي يطيق ولو لحظة واحدة في نار جهنم..؟

……………………………

الهوامش:

  1. البزار (3439) من حديث أنس، وقد جاء بنحوه عن غير واحد من الصحابة انظر: صحيح الجامع الصغير وزيادته، 2/ 734 (3961) وقد قال عنه الألباني: حديث حسن، وذكره أيضاً في الأحاديث الصحيحة، 1957 وانظر مجمع الزوائد (10/ 248).
  2. الوابل الصيب ص 33، ت: محمد عبد الرحمن عوض.
  3. تفسير الكريم المنان (2/ 39).
  4. الإيمان، ص79.
  5. الاستذكار – ابن عبد البر 20/ 268-269. 
  6. ارجع لمعرفة هذه الأسباب إلى مجموع الفتاوى (7/ 487 501).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة