لا يمكن التواصي بالحق إلا بعد معرفته ودراسته، فالحق هو الإسلام بعمومه وشموله، وأصوله المقررة في الكتاب والسنة وفهم سلف الأمة.

ما هو المراد بالتواصي بالحق والذي لا بد منه للنجاة من الخسران؟

ذكرنا في مقالين سابقين الأصل الأول والثاني [سورة العصر وأصول النجاة الأربعة] و [أثر العمل الصالح في دخول الجنة والنجاة من النار] وهذا هو الأصل الثالث من أصول النجاة من الخسران ، والمذكور في سورة العصر في قوله تعالى: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ) .

يقول الإمام الطبري رحمه الله تعالى: « وقوله تعالى: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ) ، يقول: وأوصى بعضهم بعضا بلزوم العمل بما أنزل الله في كتابه واجتناب ما نهى عنه فيه »1(1) تفسير الطبري ۲۹۰/۳۰ ..

وقال الألوسي رحمه الله تعالى: « (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ) أي بالأمر الثابت الذي لا يسوغ إنكاره ، وهو الخير كله من توحيد الله وطاعته واتباع كتبه ورسله ، والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة»2(2) روح المعانی ۲۲۸/۳۰.

وقد نبه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى إلى أن موضوع السورة كلها هو الحق فقال: «وبيان ذلك أن المراتب أربعة و باستكمالها يحصل للشخص غاية كماله :

إحداها : معرفة الحق .

الثانية : عمله به .

الثالثة : تعليمه من لا يحسنه .

الرابعة : صبره على تعلمه والعمل به وتعليمه .

فذكر تعالى المراتب الأربعة في هذه السورة ، وأقسم سبحانه في هذه السورة بالعصر أن كل أحد في خسر (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) وهم الذين عرفوا الحق وصدقوا به فهذه مرتبة (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) وهم الذين عملوا بما علموه من الحق فهذه مرتبة أخرى (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ) وصی به بعضهم بعضا تعليما وإرشادا فهذه مرتبة ثالثة ؛ (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) وصبروا على الحق ووصى بعضهم بعضا بالصبر عليه والثبات)3(3) انظر مفتاح دار السعادة (59) ..

ويقول الرازي رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ): « فاعلم أنه تعالى لما بين في أهل الاستثناء أنهم بإيمانهم وعملهم الصالح خرجوا عن أن يكونوا في خسر وصاروا أرباب السعادة من حيث أنهم تمسكوا بما يؤديهم إلى الفوز بالثواب والنجاة من العقاب ، وصفهم بعد ذلك بأنهم قد صاروا لشدة محبتهم للطاعة لا يقتصرون على ما يخلصهم بل يوصون غيرهم بمثل طريقتهم ليكونوا أيضا سببا لطاعات الغير كما ينبغي أن يكون عليه أهل الدين فالتواصي بالحق يدخل فيه سائر الدين من علم وعمل»4(4) التفسير الكبير ۸۰/۳۰ ..

ويقول البقاعي رحمه الله تعالى: « (وَتَوَاصَوْا) أي أوصى بعضهم بعض بلسان الحال أو المقال (بِالْحَقِّ) أي الأمر الثابت ، وهو كل ما حكم الشرع بصحته – فلا يصح بوجه نفيه – من قول أو عمل أو اعتقاد أو غيره من فعل أو ترك »5(5) نظم الدرر ۲۳۹/۲۲.

والقيام بالحق يكون بفعل المأمور ظاهرا وباطنا وترك المحظور ظاهرا وباطنا ، ولما كان كثير من أهل البدع يدعي أنه على الحق لأنه يرجع إلى الكتاب والسنة بزعمه ؛ كان لزاما أن يقيد الرجوع إلى الكتاب والسنة بفهم الصحابة ؛ وبذلك يكون أهل السنة والجماعة أسعد الناس بالحق .

التواصي بالحق وعلاقته بالإيمان والعمل الصالح

المسألة الأولى: في وجه ذكر التواصي بالحق بعد العمل الصالح مع أنه من العمل الصالح

التواصي بالحق من أفضل الأعمال الصالحة وهو يدخل دخولا أوليا في العمل الصالح ؛ ولكن إفراده هنا من بين الأعمال الصالحة لبيان أهميته والتأكيد عليه ، وذكره بعد العمل الصالح من باب ذكر الخاص بعد العام ، وفي ذلك يقول الطاهر ابن عاشور في التحرير والتنوير: «وعطف على عمل الصالحات التواصي بالحق والتواصي بالصبر وإن كان ذلك من عمل الصالحات ، عطف الخاص على العام للاهتمام به لأنه قد يغفل عنه ويظن أن العمل الصالح هو ما أثره عمل المرء في خاصته ، فوقع التنبيه على أن من العمل المأمور به إرشاد المسلم غيره ودعوته إلى الحق»6(6) التحرير والتنوير 15/532 ..

المسألة الثانية: ما وجه ذكر التواصي بالحق والتواصي بالصبر في جملة أصول النجاة من الخسران مع أن النجاة تتحقق بالإيمان والعمل؟

والجواب من وجوه:

الوجه الأول: أن يقال بأن التواصي بالحق والتواصي بالصبر هما من الأعمال الصالحة بل من أفضلهما، حيث يوصي بعضهم بعضا بالتمسك بالحق الذي هو دين الإسلام، متبعين في ذلك ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.

الوجه الثاني: مع أن الإيمان والعمل الصالح هما الأصلين المهمين في النجاة إلا أنهما لا يقومان ولا يستقيم العبد عليهما ويثبت إلا بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر، فمن عدم عنده التواصي بالحق وعدم عنده التواصي بالصبر فإن إيمانه وعمله الصالح لا يتماسكان بل يزولان.

المسألة الثالثة: أهمية الاجتماع في أمر الدعوة وضرورة الائتلاف وعدم الافتراق

إن ذكر التواصي في هذه السورة بصيغة الجمع (وَتَوَاصَوْا) يدل على أهمية الاجتماع في أمر الدعوة إلى الله عز وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما يؤكد على ضرورة الائتلاف وعدم الافتراق ، وأن الحق والدعوة إليه تحتاج إلى التواصي والتكاتف والتعاون ، وأن هذا من صفات الجماعة الناجية.

يقول سيد قطب رحمه الله تعالى: «فمن خلال لفظ التواصي ومعناه وطبيعته وحقيقته تبرز صورة الأمة – أو الجماعة – المتضامة المتضامنة ، الأمة الخيرة الواعية القيمة ، في الأرض على الحق والعدل والخير .. وهي أعلى وأنصع صورة للأمة المختارة .. وهكذا يريد الإسلام أمة الإسلام .. هكذا يريدها أمة خيرة قوية قائمة على حراسة الحق والخير متواصية بالحق والصبر في مودة وتعاون وتأخ تتضح فيها كلمة التواصي في القرآن»7(7) في ظلال القرآن 6/3968..

ويشهد لذلك الآيات الكثيرة في كتاب الله عز وجل التي تأمر بالاجتماع وتنهی عن الفرقة مثل قوله تعالى: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران:104-105] .

المسألة الرابعة: الحق ثقيل والمعوقات كثيرة

يفهم من قوله تعالى: (وَتَوَاصَوْا) أن لزوم الحق علما وعملا ودعوة وتعليما من الأمور الشاقة التي تحتاج إلى التواصي والتعاون ؛ وذلك لما يعترض طريق الحق من العقبات والمرارات والتحديات ، وفي ذلك يقول سید قطب رحمه الله تعالى: «والتواصي بالحق ضرورة ؛ فالنهوض بالحق عسير ، والمعوقات عن الحق كثيرة: هوى النفس ومنطق المصلحة ، وتصورات البيئة ، وطغيان الطغاة ، وظلم الظلمة ، وجور الجائرين ، والتواصي تذكير وتشجيع وإشعار بالقربى في الهدف والغاية والأخوة في العبء والأمانة ؛ فهو مضاعفة لمجموع الاتجاهات الفردية ، إذ تتفاعل معا فتضاعف ؛ تضاعف بإحساس كل حارس للحق أن معه غيره يوصيه ويشجعه ويقف معه ويحبه ولا يخذله»8(8) في ظلال القرآن 6/3968 ..

ويقول الرازي رحمه الله تعالى في مسائله حول الآية: «المسألة الثانية: دلت الآية على أن الحق ثقيل وأن المحن تلازمه ، فلذلك قرن به التواصی»9(9) التفسير الكبير 30/85 ..

والعقبات التي تصرف الناس عن الحق كثيرة ، لذا لزم على من أراد لنفسه النجاة أن يتواصى مع إخوانه على لزوم الحق والتحذير مما يصد عنه من العقبات والصوارف ؛ ومن أخطر هذه الصوارف الشبهات المتمثلة في التضليل ولبس الحق بالباطل ، والشهوات المتمثلة في الهوى والركون إلى الدنيا « فهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يشتد خوفه من اثنين: طول الأمل واتباع الهوى ؛ قال: فأما طول الأمل فينسي الآخرة ، وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق»10(10) الجواب الكافي ص۲۵..

مثال للحق والعقبات التي تعترضه في الطريق

ويضرب الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى مثالا للحق والعقبات من حوله فيقول: «مثل الحق مثل طریق مستقیم واسع وعلى جنبيه قطاع ولصوص وعندهم خواطئ قد ألبسوهن الحلي والحلل وزينوهن للناظر، فيمر الرجل بالطريق فيتعرضن له فإن التفت إليهن طمعن في حديثه فألقين إليه الكلام ، فإن راجعهن وأجابهن دعينه إلى الذبح فإذا دخل عرين الموت صار في قبضتهن أسيرا أو قتيلا ، فكيف يحارب قوما من هو أسير في قبضتهم قتيل سلاحهم ؛ بل يصير هذا عونا من أعوانهم قاطعا من قطاع الطريق ، ولا يعرف حقيقة هذا المثل إلا من عرف الطريق المستقيم وقطاع الطريق ومكرهم وحيلهم وبالله التوفيق وهو المستعان ؛ وقد نصب الله سبحانه الجسر الذي يمر الناس من فوقه إلى الجنة ونصب بجانبيه كلاليب تخطف الناس بأعمالهم ؛ فهكذا كلاليب الباطل من تشبيهات الضلال وشهوات الغي تمنع صاحبها من الاستقامة على طريق الحق وسلو که والمعصوم من عصمه الله»11(11) الصواعق المرسلة 4/1256 ..

كما يصور رحمه الله تعالى الصادين عن الحق ووسائلهم في ذلك مع الحق وأهله فيقول: «فإذا جاء الحق معارضا في طريق رياستهم طحنوه وداسوه بأرجلهم ، فإن عجزوا عن ذلك دفعوه دفع الصائل ، فإن عجزوا عن ذلك حبسوه في الطريق ، وحادوا عنه إلى طريق أخرى، وهم مستعدون لدفعه بحسب الإمكان ، فإذا لم يجدوا منه بدا أعطوه السكة والخطبة وعزلوه عن التصرف والحكم والتنفيذ ، وإن جاء الحق ناصرا لهم وكان لهم صالوا به وجالوا وأتوا إليه مذعنين ، لا لأنه حق بل لموافقته غرضهم وأهواءهم وانتصارهم به (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ * وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ ۚ بَلْ أُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [النور:48-50].

والمقصود: أن قصد هؤلاء فاسد في غاياتهم ووسائلهم ، وهؤلاء إذا بطلت الغايات التي طلبوها واضمحلت وفنيت ، حصلوا على أعظم الخسران والحسرات ، وهم أعظم الناس ندامة وتحسرا ، إذا حق الحق وبطل الباطل ، وتقطعت بهم أسباب الوصل التي كانت بينهم ، وتيقنوا انقطاعهم عن ركب الفلاح والسعادة ، وهذا يظهر كثيرا في الدنيا ، ويظهر أقوى من ذلك عند الرحيل منها والقدوم على الله ، ويشتد ظهوره وتحققه في البرزخ ، وينکشف كل الانكشاف یوم اللقاء إذا حقت الحقائق ، وفاز المحقون وخسر المبطلون»12(12) مدارج السالكين 1/53..

الصوارف والأسباب المانعة من قبول الحق

ومن الأسباب الصادة عن الحق والتي منبعها الهوى: الحسد، والبغي ، والظلم ، والكبر ، والعناد ، وحب الشهرة ، والجاه ، وإرضاء الناس بسخط الله تعالى ، والغرور بالحياة الدنيا، وطول الأمل .

ويصور الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى هذه الصوارف وأثرها في الصد عن الحق ومعاداة أهله فيقول: «والأسباب المانعة من قبول الحق كثيرة جدا ؛ فمنها : الجهل به وهذا السبب هو الغالب على أكثر النفوس ؛ فإن من جهل شيئا عاداه وعادى أهله ، فإن انضاف إلى هذا السبب بغض من أمره بالحق ومعاداته له وحسده كان المانع من القبول أقوى ، فإن انضاف إلى ذلك إلفه وعادته ومرباه على ما كان عليه آباؤه ومن يحبه ويعظمه قوي المانع ، فإن انضاف إلى ذلك توهمه أن الحق الذي دعي إليه يحول بينه وبين جاهه وعزه وشهواته وأغراضه قوي المانع من القبول جدا ، فإن انضاف إلى ذلك خوفه من أصحابه وعشيرته وقومه على نفسه وماله وجاهه كما وقع لهرقل ملك النصارى بالشام على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ازداد المانع من قبول الحق قوة ؛ فإن هرقل عرف الحق وهم بالدخول في الإسلام فلم يطاوعه قومه وخافهم على نفسه فاختار الكفر على الإسلام بعد ما تبين له الهدى .

ومن أعظم هذه الأسباب: الحسد فإنه داء كامن في النفس ویری الحاسد المحسود قد فضل عليه وأوتي ما لم يؤت نظيره فلا يدعه الحسد أن ينقاد له ويكون من أتباعه ، وهل منع إبليس من السجود لآدم إلا الحسد ؟ فإنه لما رآه قد فضل عليه ورفع فوقه غص بريقه واختار الكفر على الإيمان بعد أن كان بين الملائكة ؛ وهذا الداء هو الذي منع اليهود من الإيمان بعيسى ابن مريم وقد علموا علما لا شك فيه أنه رسول الله جاء بالبينات والهدى فحملهم الحسد على أن اختاروا الكفر على الإيمان وأطبقوا عليه وهم أمة فيهم الأحبار والعلماء والزهاد والقضاة والأمراء ، هذا وقد جاء المسيح بحكم التوراة لم يأت بشريعة يخالفها ولم يقاتلهم ، وإنما أتى بتحليل بعض ما حرم عليهم تخفیفا ورحمة وإحسانا ، وجاء مكملا لشريعة التوراة ، ومع هذا فاختاروا كلهم الكفر على الإيمان ؛ فكيف يكون حالهم مع نبي جاء بشريعة مستقلة ناسخة لجميع الشرائع مبكتا لهم بقبائحهم ومناديا على فضائحهم ومخرجا لهم من ديارهم»13(13) هداية الحياري ص16..

التزام الحق تبعاته ثقيلة والجزاء عظيم

والحاصل من كل ما سبق أن الحق ثقيل والعقبات التي تصرف عنه وتصد الناس عن قبوله كثيرة ، ولذا جاء في سورة العصر أن من صفات الناجين من الخسران تواصيهم بالحق ولزومه ، وبدون التواصي فإن النفوس غالبا ما تضعف أمام شبهات الباطل وشهواته ، وإذا كثر الباطل على النفوس واعتادت سماعه ورؤيته ولم يوجد التواصي بالحق ورد الباطل فإن ذلك يكسبها تحريفا للحق وحبا للباطل ، فإذا جاء الحق بعد ذلك ردته أو كذبت به إن قدرت على ذلك ، وإلا حرفته ولبسته بالباطل ، ونظرا لثقل الحق فقد كان السلف يتواصون به وينبهون على ثقله كما جاء ذلك في وصية أبي بكر الصديق لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما والتي فيها: «وإنما ثقلت موازین من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم في الدنيا الحق وثقله عليهم ، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يكون ثقيلا ، وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل وخفته عليهم ، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يخف»14(14) الزهد لابن المبارك ، نقلا عن كتاب الصلاة لابن القيم ص۱۰۱..

المسألة الخامسة: أقسام الناس إزاء الحق ولوزمه

ينقسم الناس إزاء الحق ولزومه إلى الأصناف التالية:

1- صنف أخطأ الحق وضل عنه إما بجهل أو شبهة أو تضليل، وهذا من جنس النصارى الضالین .

2- صنف علموا الحق وتبين لهم الرشد من الغي فاستكبروا واتبعوا أهواءهم وتنكبوا الحق إيثارا لدنيا فانية أو حسدا من عند أنفسهم ، وهذا من جنس اليهود المغضوب عليهم .

3- أسعد الناس بالحق ؛ وهم الذين علموا الحق وعرفوه وانقادوا له وعملوا به ودعوا إليه ، وهم الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين .

وأصحاب هذه الأصناف الثلاثة ومن في معناهم جاء ذكرهم في القرآن الكريم في مواضع كثيرة ؛ حيث يخبر سبحانه أن أهل السعادة هم الذين علموا الحق واتبعوه وتواصوا به كما في سورة العصر ، وأن أهل الشقاوة هم الذين جهلوا الحق وصدوا عنه أو علموه وخالفوه واتبعوا غيره ، وهم الذين ندعو الله سبحانه في كل صلاة في آخر سورة الفاتحة أن يجنبنا طريقهم ؛ طريق المغضوب عليهم والضالين ، وعن هذه الأصناف الثلاثة يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: «فانقسم الناس بحسب معرفة الحق والعمل به إلى هذه الأقسام الثلاثة لأن العبد إما أن يكون عالما بالحق أو جاهلا به ، والعالم بالحق إما أن يكون عاملا بموجبه أو مخالفا له ؛ فهذه أقسام المكلفين لا يخرجون عنها البتة؛ فالعالم بالحق العامل به هو المنعم عليه وهو الذي زکی نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح وهو المفلح (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) والعالم به المتبع هواه هو المغضوب عليه ، والجاهل بالحق هو الضال ، والمغضوب عليه ضال عن هداية العمل ، والضال مغضوب عليه لضلاله عن العلم الموجب للعمل ؛ فكل منهما ضال مغضوب عليه ولكن تارك العمل بالحق بعد معرفته به أولى بوصف الغضب وأحق به»15(15) مدارج السالكين 1/11 ..

ويزيد الأمر وضوحا حول فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل فيقول: «وكانوا يقولون: احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون ؛ فهذا يشبه المغضوب عليهم الذين يعلمون الحق ويعملون بخلافه ، وهذا يشبه الضالين الذين يعملون بغير علم .. فبالصبر تترك الشهوات وباليقين تدفع الشبهات كما قال تعالى: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) وقوله تعالى: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ) [ص: 45] وفي بعض المراسيل: (إن الله يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات ، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات)»16(16) أعلام الموقعین 1/137..

مما سبق يتضح لنا أن أسعد الناس بالحق هم الذين علموه وانقادوا له واتبعوه وتواصوا به وبالصبر عليه ، فتواصوا بالحق الذي يدفع الشبهات ، و بالصبر الذي يدفع الشهوات .

المسألة السادسة: من أبرز علامات المتواصين بالحق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله عز وجل

لزوم الحق والتواصي به له صور وعلامات لا بد من ظهورها على العبد حتى يعد من المتواصين بالحق ، ومن هذه العلامات والصور :

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله عز وجل، و بدون ذلك أو بضعفه ينعدم أو يضعف التواصي بالحق ، لأن التواصي بالحق هو أصل الأمر والنهي والدعوة والجهاد ، وهو صمام الأمان للأفراد والمجتمعات وبدونه يشقى الناس وتحل بهم المصائب والعقوبات والشقاء في الدنيا والآخرة ، والواقع شاهد على ذلك ، فما من مجتمع قل فيه التواصي بين أهله بالحق وضعفت فيه شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا حل الفساد والظلم والشقاء بينهم ، وعلى العكس من ذلك عندما يوجد التواصي بالحق والدعوة إلى الله عز وجل فإن الخير والسعادة والنماء توجد ويهنأ الناس بها ، وسواء كان هذا المجتمع صغیرا کالأسرة في داخل البيت ومجتمعات الأقارب والقبائل ، أو كان كبيرا كمجتمعات المدن والدول ، وليس المقصود هنا التفصيل في شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وشروطه وضوابطه ، وإنما المقصود الإشارة إلى أن هذه الشعيرة هي من صميم التواصي بالحق وأن المقصر فيها بسكوته عن الحق أو قوله الباطل قد قصر في أصل عظيم من أصول النجاة في الدنيا والآخرة له ولمجتمعه .

يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: «فالساكت عن الحق شيطان أخرس عاص لله مراء مداهن . إذا لم يخف على نفسه . والمتكلم بالباطل شیطان ناطق عاص لله ، وأكثر الخلق منحرف في كلامه وسكوته ، وأهل الوسط . وهم أهل الصراط المستقيم . كفوا ألسنتهم عن الباطل وأطلقوها فيما يعود عليهم نفعه في الآخرة»17(17) الجواب الكافي ص۰۱۱۳.

وقول الباطل أشد من كتم الحق ؛ لأن المتكلم بالباطل لم يقصر عن قول الحق فقط بل أفسده على الناس ، فهو أشبه بمن يقدر على الناس الماء مع شدة الحاجة إليه ، بل إن جرمه أشد ؛ فإن حاجة الناس إلى معرفة الحق أشد من حاجتهم إلى الماء .

ويوجه رحمه الله تعالى اللوم والتوبيخ إلى الساكتين عن الحق والتاركين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيقول: «وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك ، وحدوده تضاع، ودينه يترك ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يرغب عنها وهو بارد القلب ، ساکت اللسان ، شیطان أخرس ، كما أن المتكلم بالباطل شیطان ناطق ، وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم وریاستهم فلا مبالاة بما جرى على الدين؟ وخيارهم المتحزن المتلمظ ، ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله بذل وتبدل وجد واجتهد ، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه .

وهؤلاء – مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم – قد بلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون وهم لا يشعرون ، وهو موت القلوب ؛ فإن القلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه لله ورسوله أقوى ، وانتصاره للدين أكمل»18(18) أعلام الموقعين 2/176 ..

ويكفينا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ألا لا يمنعن أحدکم رهبة الناس أن يقول بحق إذا رآه أو شهده ؛ فإنه لا يقرب من أجل ولا يباعد من رزق أن يقول بحق أو يذكر بعظيم»19(19) أحمد في المسند (3/5 ،44،46،53،87،92) من حديث أبي سعيد الخدري بسند صحيح ..

الهوامش

(1) تفسير الطبري ۲۹۰/۳۰ .

(2) روح المعانی ۲۲۸/۳۰

(3) انظر مفتاح دار السعادة (59) .

(4) التفسير الكبير ۸۰/۳۰ .

(5) نظم الدرر ۲۳۹/۲۲

(6) التحرير والتنوير 15/532 .

(7) في ظلال القرآن 6/3968.

(8) في ظلال القرآن 6/3968 .

(9) التفسير الكبير 30/85 .

(10) الجواب الكافي ص۲۵.

(11) الصواعق المرسلة 4/1256 .

(12) مدارج السالكين 1/53.

(13) هداية الحياري ص16.

(14) الزهد لابن المبارك ، نقلا عن كتاب الصلاة لابن القيم ص۱۰۱.

(15) مدارج السالكين 1/11 .

(16) أعلام الموقعین 1/137.

(17) الجواب الكافي ص۰۱۱۳

(18) أعلام الموقعين 2/176 .

(19) أحمد في المسند (3/5 ،44،46،53،87،92) من حديث أبي سعيد الخدري بسند صحيح .

اقرأ أيضا

سورة العصر… نجاة من الخُسْر

حتى يكون المسار سليماً والعمل مثمراً

العدل والتوازن في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

 

التعليقات غير متاحة